السبت، 11 أكتوبر 2014

تجربة الغربة و الضياع -ثانية باك-


ظاهرة الشعر الحديث

أحمد المعداوي

القراءة التوجيهية د

(الفصل الثاني)  حركة الشعر الحديث - تجربة الغربة والضياع

تمهيد :

- يربط المعداوي تعبير الشعراء المحدثين عن إحساسهم بالغربة والضياع بهزيمة الجيوش العربية وحدوث النكبة سنة 1948 ..
- أفرزت النكبة نتيجتين :
الأولى هي زوال القداسة عن الوجود العربي التقليدي والثانية هي توفر هامش واسع من الحرية أمام الشعراء ..
- هامش الحرية أتاح بدوره الاطلاع الواسع على الثقافات الأجنبية والتراث الإنساني عامة ..
- حاول الشاعر الحديث الاستعانة بالثقافة الإنسانية عن طريق مزجها بالثقافة القومية ليصبح قادرا على فهم واقعه الخرب ’’ والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه ، وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي نريد ‘‘ .
- استفاد الشاعر الحديث من الفلسفة والتاريخ وعلم الأساطير والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع ، ونهل من الثقافة الشرقية ( المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية ( الصابئة )) ، كما نهل من إرث الشعراء الذين عانوا محنة استبطان العالم مثل الجامي وجلال الدين الرومي وفريد العطار والخيام وطاغور ..ومن إرث الشعراء الذي عانوا محنة الالتزام بقضايا الإنسان مثل أودن ، بابلو نيرودا ، إيلوار ، أراكون ، لوركا ، ماياكوفسكي وناظم حكمت بالإضافة إلى اعمال كافكا وريلكه وإليوت ..
ومن الثقافة الشعبية نهل الشاعر الحديث من السيرة ف ’’ قرأ سيرة عنترة وتعرف إلى أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة ‘‘ ومن القراآن والحديث اكتسب الشاعر الحديث مهارته اللغوية ..
- وفي ما كان الشاعر الحديث ينهل من الثقافات الإنسانية كان يتعاطف مع العناصر الحية في التراث الشعري العربي مثل طرفة والمتنبي والمعري والشريف الرضي ..هذا الموقف من التراث الشعري العربي كان وراءه مفهوم جديد للشعر بلوره الشاعر الحديث .. ف ’’ الإبداع الشعري وسيلة اكتشاف الإنسان والعالم ‘‘ و ’’ فاعلية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى ‘‘ والكتابة الشعرية ’’ تعني عنده اصطناع موقف بإزاء الكون والإنسان والحضارة ‘‘ و ’’ مغامرة تطمح إلى تفسير العالم وتغييره ‘‘
- ورغم هذا المفهوم الجديد للشعر والموقف من التراث الشعري العربي فقد استوحى الشاعر الحديث الأجواء الشعرية القديمة وضمن أشعاره معان ’’ انطوت عليها أشعار القدماء ..
استلهم الشاعر الحديث تجارب النماذج الإنسانية التي حفلت بها الأعمال الأدبية العالمية ف’’ طوف مع يوليس في المجهول ، ومع فاوست ضحى بروحه ليفتدي المعرفة ‘‘، ويئس من العلم فراح إلى ضفاف نهر الكنج .. ’’ وحمل صليبه مع المسيح وحمل صخرته مع سيزيف ‘‘ ورحل مع جلجامش ومع الحلاج كما رهن نفسه مع المعري وحين تعب جلس ينتظر الذي يأتي ولا يأتي ..
تجربة الشاعر الحديث متميزة ومتفردة بمعاناتها للواقع معاناة شاملة وبخصوبتها الفكرية .. ولذلك كانت تستعصي على الانحصار ضمن نمط تعبيري جاهز ( قديم ) فقد ’’ بات من حق المضامين الجديدة أن تفجر الأشكال القديمة ، وتصطنع لنفسها أشكالا جديدة تلائمها ، وبهذا الاعتبار يصبح الشكل نفسه ثمرة من ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة ، ولاشك في أن اكتشاف شكل جديد يعد انتصارا فنيا كبيرا ‘‘ .. وهكذا استقام للشاعر الحديث ’’ شكل جديد يقوم على أساس موسيقي ، هو التفعيلة الواحدة ‘‘ ..
- يختم المعداوي هذا التمهيد باعتبار’’ حركة الشعر الحديث ظاهرة حضارية ناشئة عن رد الفعل الذي يحدث في المجتمعات عقب النكبات الكبرى ‘‘ وبكون الشكل الشعري الحديث قد استقام عند شعراء كبار مثل السياب والبياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي .. وبتقسيمه المضمون الشعري للحركة إلى تجربتين هما تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت وضرورة دراسة كل واحدة منهما لاكتشاف الخيط الذي يربطهما ..
تجربة الغربة والضياع ..
- حين لاحظ الدارسون استفاضة نغمة الغربة والتمزق والضياع في الشعر الحديث عزوها إلى عدة عوامل يذكر المعداوي منها ثلاثة هي التأثر ببعض أعمال الشعراء الغربيين مثل إليوت وبقصيدته الأرض الخراب ، والتأثر ببعض أعمال الراوئيين والمسرحيين الوجوديين مثل ألبير كامو وسارتر وببعض النقاد ككولن ويلسون الذين ترجمهت أعمالهم إلى اللغة العربية، ثم بعامل المعرفة الذي حول روح الشاعر الحديث إلى كيان ممزق يتخذ مواقف صارمة من نفسه ومن المجتمع والكون ..
- غير أن المعداوي يرفض أن يكون ما ذهب إليه الدارسون هو مصدر نغمة الكآبة والغربة والضياع في الشعر الحديث ’’ غير أننا نرفض أن تكون تلك هي المصادر الوحيدة لنغمة الكآبة والضياع والتمزق التي استفاضت في الشعر الحديث . وأغلب الظن أن هذه النغمة تجد جذورها في تربة الواقع العربي الذي حولته النكبة إلى أنقاض وخرائب ‘‘ . ويعلل ذلك بكون النكبة قد ’’ مالت بالشاعر الحديث ، ليرتاد آفاقا مظلمة وطرقا ملتوية يسودها الدمار والعقم ‘‘ .. وهذا يعني في نظره أن النكبة ’’ كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة ، نحو آفاق الضياع والغربة ‘‘ .. دون أن يعني ذلك أن الشاعر الحديث كان منحرفا أو مريضا أو مقلدا ’’ حين قطع الصلة بينه وبين الواقع ‘‘ ..
- ويحدد المعداوي هذه النظرة إلى تجربة الغربة والضياع كإطار لدراستها متوخيا إبراز كونها تجربة أصيلة نابعة من الواقع الخرب وليست مستوردة أو وليدة تأثر بالغرب .. وبذلك يتحدد الشاعر بوصفه غريبا في الكون والمدينة والحب والكلمة ..
بعد ذلك ينتقل المعداوي إلى تحديد ما يعنيه بمصطلح الغربة .. ’’ إن ما يعنيه مصطلح الغربة عندنا هو غربة الشاعر في واقعه الحضاري بوصفه كلا ‘‘ لكن غربة الشاعر في الكون ’’ هي غير غربته في المدينة ، ولكنهما معا وجهان لعملة واحدة هي غربة الشاعر في واقع أمته الحضاري ‘‘ ..
الغربة في الكون :

أفرز واقع النكبة والهزيمة إحساسا لدى الشاعر الحديث بأنه غريب في الكون ’’ وقد رفعت عنه العناية الإلهية ، وتولى أمر نفسه بنفسه كأنه الريح المطلقة الخطى ‘‘ .. وقد بدا الكون في شعره متاها ’’ يتغلغل فيه الشاعر كالمسمار بلا صوت ولا إرادة ‘‘ ، كما بدا أرضا بدون خالق والشاعر فيها بلا وجه ولا حقيقة ، وفضاء بلا حدود والشاعر فيه بلادفء ولا غطاء .. والزمان في الكون لا طبيعة له ولا قانون وليس هو الزمن الذي اعتاده الشاعر.. وأمام هذا الإحساس لم يجد الشاعر الحديث خلاصا إلا بالموت وإن كان صعبا لكنه خير من معايشة واقع مظلم ..
الغربة في المدينة :

ينطلق المعداوي من قناعة لديه هي أن الشعر الحديث تسيطر عليه أحاسيس المدن الكبرى .. والمدينة في نظره ’’ قد فقدت كثيرا من مظاهر الأصالة ، منذ أن غزتها المدنية الأوروبية ، فأصبحت بعماراتها ، وطرقها ، وبدخول الآليات إلى مصانعها ، لباسا فضفاضا لايناسب واقع الأمة المهزوم ‘‘ ..
وقد صور الشاعر الحديث المدينة العربية ’’ في ثوبها المادي ، وحقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني ‘‘ فهي ’’ فوارة قيظ ( حر ) لا يغسلها النسيم ‘‘ وهي ’’ مدينة بلا قلب ولاحب ‘‘ ’’ تقسو على الأموات كما تقسو على الأحياء .. كما صور الناس فيها صامتين منشغلين بثقل الزمن غير ملتفتين إلى من هو في حاجة إلى نظرة إشفاق .. والشاعر الحديث لم يجد له مهربا منها ..
الغربة في الحب :

كما فشل الشاعر الحديث في التأقلم مع جو المدينة فشل أيضا في إيجاد سكينة نفسه عن طريق الحب .. فعلى مستوى الجسد ، عجز الشاعر عن الوصول إلى كنه المرأة حتى وهما معا على سرير واحد حيث يبقى كل منهما في سجنه الخاص ** ذلك أن المرأة لم تعد قادرة على تخليصه من همه القاتل بأنوثتها وجمالها .. أما على مستوى الروح فقد فقد الحب قيمته في واقع النكبة ولم يعد بلسما شافيا لذلك أعلن الشاعر أن الحب فات ومات ..
الغربة في الكلمة :

أراد الشاعر الحديث أن تكون كلمته ( شعره ) سيفا مسلطا على الظلم لكن كلماته في واقع الخراب تحولت إلى حجر وأكتشف أنه لن يستطيع أكثر من تصوير الواقع البشع الذي أفرزته النكبة .. وحين جرب الصمت اكتشف أنه عذاب وموت فعاد ليطمئن إلى الكلمة التي لبست السواد وتوقفت في حلقه مستعصية على الخروج ..
- ينتهي المعداوي إلى أن تجربة الغربة في الشعر الحديث تأخذ أبعادا مختلفة حيث تجسدت على مستوى الارتباطات الفردية للشاعر ( الحب ) أو الاجتماعية ( المدينة ) أو على المستوى الكوني ( غربته في الكون ) .
- هذه الأبعاد ليست سوى وجه واحد لغربة الشاعر في واقعه الحضاري .. ’’ فالغربة في الكلمة ، أو في المدينة ، أو في الحب ، ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه ، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة ‘‘ .. وهي تلتقي كلها في عدة محاور منها محور الموت ومحور اليبوسة والتحجر ، ومحور انحباس الصوت ..
- تعدد أوجه الغربة سمح للشاعر الحديث ’’ أن يمزج في بعض الأحيان ، بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة ‘‘ أو أكثر من لونين كما في قصيدة فارس النحاس لعبد الوهاب البياتي ..
- بعد أن يتوقف المعداوي عند قصيدة فارس النحاس ووقوفه على أوجه الغربة فيها ( الغربة في المكان ، في الزمان ، في المدينة ، في العجز ، في الحياة ، في الموت ، في الصمت ) ينتهي إلى ان هذا المزج ’’ يكشف عن التمزق النفسي ، والتمزق الروحي للإنسان العربي كما يكشف عن تخبطه في تلمس سبيل الخلاص ‘‘ ..
- وبتعدد ألوان الغربة تعددت الرموز المعبرة عنها .. فقد رمز الشاعر بالكلمة وبالعبارة دون أن يبقى حبيس الرموز الخاصة ( لكل لون من ألوان الغربة رمزه الخاص ) .. فقد استعمل الشاعر الحديث الرمز العام للتعبير عن ألوان مختلفة من الغربة ( رمز واحد لكل الألوان ) كما في قصيدة الدارة السوداء ليوسف الخال ..
يؤكد المعداوي على وجود ارتباط وثيق بين معاني الغربة والضياع وبين معاني التجدد واليقظة والبعث .. لكن هذا الارتباط ’’ لا يبدو واضحا في الشعر الحديث منذ الوهلة الأولى لأن هناك مجموعات شعرية كاملة ، يستقطبها محور التمزق والضياع والحزن بكيفية تكاد تكون مغلقة ‘‘ وهذا ما أدى إلى تخوف بعض الدارسين من أن تسقط تجربة الشعر الحديث في ما سقطت فيه التجربة الرومانسية من سلبية في المضامين ..
- بعد ذلك يتعرض المعداوي إلى الجانب السلبي في في تجربة الغربة والضياع والذي نشأ ’’ من تأثر بعض الشعراء الشباب في فترات معينة من حياتهم بما قرؤوا من ادب وجودي ، بالجانب السلبي من هذا الأدب ‘‘ والمغلب لمعاني الضجر والسأم والغثيان دون مبرر واضح كما في تجربة عبد الصوفي والتي ذروتها في قصيدته ’’ تثاؤب ‘‘ ..
’’ إن هذه النغمة المستوردة هي التي حملت بعض النقاد على اتخاذ مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها ‘‘
- يختم المعداوي هذا الفصل بالإشارة إلى انه ليس بصدد الدفاع عن تجربة الغربة والضياع وإنما هدفه هو ’’ لفت النظر إليها ، وإلى الدور الذي لعبته في تهييئ الشاعر الحديث لتجربة أخرى ، سنخصص للحديث عنها فصلا آخر ، بعنوان ’’ تجربة الحياة والموت ‘‘ ..

 

هناك 3 تعليقات: