الأحد، 12 أكتوبر 2014

لي في من مضى مثل -تحليل منرابط- الثانية باك

تحليل النص:
عاش الشعر العربي فترات زاهية في عصوره القديمة ،إذ بلغ ذروة المجد ووصل قمة النضج والكمال شكلا ومضمونا، لكنه ولأسباب مختلفة دخل نفقا مظلما وسردابا معتما فيما سمي حضاريا بعصر الانحطاط،حيث تراجع الشعر تراجعا مهولا، وركز شعراء تلك الفترة على الشكل واهتموا بألوان البديع والتلاعب اللفظي وتفاهة الأغراض وغثاثة النظم وبرودة المعاني، وهكذا كان الشعر صورة لعصره، فاقترب أو كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لولا ظهور حركة شعرية أفرزتها حركة النهضة أخذت على عاتقها مهمة بث دماء الحياة في أوصال الشعر المتجمدة، ووسمت هذه الحركة بإحياء النموذج حيث انتشلت الشعر من مستنقع الرداءة وأخرجته من بوتقة الغثاثة لينطلق كما كان في عصور ازدهاره، ولعل من أبرز من مثلوا هذا التيار أحمد شوقي، وناصيف اليازجي، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي، ولا ننسى محمود سامي البارودي الذي يعد-وبحق- رأس هذه الحركة ورائدها ،حيث أسهم في إعادة النضارة والرواء والبهاء والرونق إلى الشعر من خلال ما أبدعه من شعر في مختلف الأغراض،وعرف بصاحب السيف والقلم،كما عرف باحتذائه بفحول الشعراء لذلك وجدنا شعره يشبه إلى حد بعيد شعر الفحول من الطبقة الأولى.فإلى أي حد مثلت القصيدة شعر إحياء النموذج شكلا ومضمونا؟
لعل أول ما يلفت انتباه القارئ هو العنوان الذي يتراءى أعلى الصفحة الذي جاء شبه جملة "لي في من مضى مثل" مكونا من مبتدأ "لي في من مضى" وخبر "مثل"،ودلاليا يوحي العنوان باقتداء وتقيل طريقة من سبق وسلف واتخاذهم مثلا يقتدى به،وهو ما يرجح إمكانية أنه يتمثل طريقتهم في قول الشعر ونظمه وإبداعه.فإلى أي حد يعكس العنوان مضمون النص؟
وانطلاقا من عنوان النص "لي في من مضى مثل" واتكاء على شكله العمودي وبعض المؤشرات النصية الدالة من قبيل:" رد الصبا بعد شيب اللمة الغزل،والجو بالباترات البيض مشتعل،فكان يوما قضينا فيه لذتنا،واعرف مواضع ما تأتيه من عمل..." نفترض أننا أمام قصيدة عمودية تقليدية تنتمي إلى شعر البعث والإحياء،يتطرق فيها الشاعر إلى أغراض متعددة مركزا على الفخر بشجاعته وفروسيته.فإلى أي حد تصح هذه الفرضية؟ وما الأساليب الفنية التي استنجد بها للتعبير عما بداخله؟وهل نجح في احتذاء الأقدمين؟
بدأ الشاعر قصيدته بمقدمة عاطفية يصف فيها تقلب أحواله ونفسيته بعد أن خط الشيب فوديه وغزا مفرقيه ،ونجد إلى جانب ذلك حنينا إلى الماضي ورضا بما خطه القضاء،منتقلا بعد ذلك إلى وصف فرسه الأسطوري الخارق للعادة محتذيا بامرئ القيس،ولم ينس الافتخار بشجاعته وفروسيته في ساحة الوغى على غرار عمرو بن كلثوم ،وبعد أن يشبع غرورة الافتخاري يصف رحلة الصيد التي قام بها مع زمرة من أصدقائه وما حصلوا عليه فيها من لذات،ليختم قصيدته بأبيات من الحكمة في قالب أمر ونهي مفيد للنصح والإرشاد.
+نستنتج مما سبق تعدد أغراض القصيدة حيث يظهر جليا أن الشاعر يحتذي القدماء في طريقة تعبيرهم ونظمهم، كما يمكن الخلوص إلى أن كل وحدة دلالية من الوحدات الأربع(الغزل_الفخر-الرحلة-الحكمة) تعبر عن مرحلة من مراحل حياة الشاعر.
وإذا انتقلنا إلى مرحلة التحليل ودخلنا ساحة المعجم وجدنا الشاعر يوظف حقولا دلالية كثيرة ولذلك علاقة بتعدد الأغراض،وهكذا نجد الحقل الدال على العاطفة وتندرج تحته الألفاظ والعبارات التالية:"رد الصبا،الغزل،وللمحبة قبلي سنة سلفت.." والحقل الدال على الفخر ومما ينضوي تحته:"أسير أمام القوم ضاحية،الجو مشتعل،أمضي به الهول،ترى الرجال وقوفا بعد فتكته.." وثالث الحقول الدلالية هو الحقل الدال على الوصف وينضوي تحته:"زرق حوافره، خضر جحافله،كأنه شعلة، سارية هطلاء دانية."ورابع الحقول حقل الحكمة إذ تندرج تحته الألفاظ والعبارات التالية:" أيام الفتى دول،قضاء خطه الأزل،فاتبع هواك..." ومن خلال جرد الحقول الدلالية تبين أن حقل الفخر والفروسية كان له قصب السبق والقدح المعلى لأن غرض القصيدة الرئيسي هو الفخر،وفيما يخص العلاقة بين الخقول فهي قائمة على التكامل والترابط العضوي .
+ إن الناظر في معجم النص يخرج بخلاصة مفادها أن لغة القصيدة اتسمت بجزالتها وقوة جرسها حيث إنها تشبه إلى حد بعيد لغة القدماء من الفحول.
وإذا عرجنا ناحية الجانب الإيقاعي ألفينا الشاعر قد ركب بحر البسيط الذي تعرضت تفعيلاته للخبن،خاصة في العروض والضرب مما أثمر لنا ظاهرة التصريع حيث إن العروض(غزلو) تبعت الضرب (هزلو ) في النقصان وهوما أحدث جرسا موسيقيا رائقا تطرب له الآذان وتهتز له النفوس، ولا شك أن اختيار بحر البسيط لم يأت عبثا بل نظرا لما يوفره من مساحة مكانية وامتداد صوتي وطول نفس يساعد الشاعر على التعبير بأريحية عن فخره وأيام صباه وعن إيصال حكمته ، وفيما يخص القافية ففد جاءت مطلقة موحدة في كل القصيدة (-0---0) ، كما جاءت كلمة تارة(مشعلو) وأكثر من كلمة تارة(هلهزلو)، وقد أدت وظيفة صوتية تمثلت في النغم الذي تحدثه،ونفسية تجسدت فيما تبعثه في النفس من راحة واطمئنان ناتج عن تكرار نفس الصوامت والصوائت نهاية كل بيت،ووظيفة معنوية حيث أسهمت في بناء المعنى وإتمامه، وعموما جاءت القافية متمكنة في مكانها يستدعيها المعنى كم أغنت إيقاع البيت الشعري،أما الروي فقد جاء لاما مرفوعة في كل القصيدة وهو رفع يتماشى مع جو الفخر ويعكس معنويات الشاعر المرتفعة،والواضح أن تكرار حرف الروي البارز أسهم بدوره في إغناء نهايات البيات وجعل النفس تنتظر تكرارها .
أما إذا انتقلنا ناحية الإيقاع الداخلي نجد الشاعر قد استخدم التوازي في البييت التاسع:
زرق حوافره، سود نواظره خضر جحافله، في خلقه ميل
إذ وازن بين "خضر وزرق" وبين "حوافره وجحافله" الأمر الذي خلق جرسا موسيقيا مطربا،وهو تواز نحوي نسبي،أحادي،أفقي، وإضافة إلى التوازي نجد التكرار ؛حيث نجد تكرار صائت الضمة وتكرار بعض الحروف مثل :اللام والسين ،كما نجد تكرارا لكلمات مثل:الكف ،كما نجد التكرار الصوتي في البيت التاسع : فعل فواعله، فعل فواعله، فعل فواعله،وقد أغنى هذا التكرار الجانب الصوتي لما نتج عنه من ترداد وتكرار لنفس الأصوات والصيغ.
+نلاحظ من تحليلنا للبنية الإيقاعية للقصيدة أن شاعرنا متأثر حتى النخاع بالأقدمين ويحذو طريقتهم حذو القذة بالقذة، ويتجلى ذلك في اعتماده بحرا من بحور الخليل وقافية موحدة ورويا واحدا إضافة إلى التوازي والتصريع.
وتعد الصور الشعرية روح الشعر وعموده الفقري،لهذا حرص الشعراء على توظيفها في قصائدهم ،وهو ما حرص عليه شاعرنا عندما وظف أشكالا عديدة منها؛حيث نجد الاستعارة في قوله " قضاء خطه الأزل" حيث شبه الأزل بإنسان أو قلم يكتب ويخط،فحذف المستعار منه "الإنسان" ورمز إليه بالقرينة "خطه" على سبيل الاستعارة المكنية التبعية ،ونجد الاستعارة في قوله أيضا "يصحبني ماضي الغرار" إذ شبه ماضي الغرار بالصاحب ،ونجد استعارة في البيت الثامن في قوله:"نهر الصبح" حيث جعل للصبح نهرا،ولم يكتف الشاعر بالاستعارة بل أضاف لها الكناية في قوله"لم يعلق به بلل" فالبلل كناية عن الدم ،كما نجد المجاز المرسل في قوله"تنمو السوام بها" علاقته المسببية ،حيث ذكر المسبب"السوام " وأراد السبب "النبات" وفي قوله" إن أنزل بهم نزلوا" وعلاقته المحلية حيث ذكر المحا واراد الحال،ونجد أيضا التشبيه في البيت الثالث عشر حيث شبه السبيف في حركته وسرعته بالشعلة التي تحركها الريح، ووجه الشبه السرعة،ولا يخفى على القارئ ما أدته هذه الصور مجتمعة من وظيفة تزيينية حيث أضفت على القصيدة بهاء ورونقا، ووظيفة تعبيرية نظرا لخدمتها دلالة القصيدة وإغناء المعنى.
وإذا انتقلنا ناحية الأسلوب وجدنا الغلبة للأسلوب الخبري (رد الصبا ،زرق حوافره ،يممتها برفاق..) نظرا لأن طبيعة القصيدة استدعت ذلك ؛فالشاعر يعبر عن حالته المتقلبة ويفتخر بشجاعته ويصف،وهو أمر لا يتم إلا بالأسلوب الخبري ،أما الأسلوب الإنشائي فقد جاء حضورا محتشما في صيغة الأمر (اتبع هواك،دع ما يستراب به) وقد خرج عن معناه الحقيقي ليفيد الالتماس.
قصد الشاعر في قصيدته إلى إبراز نفسه في صورة الفارس الذي لا يقهر في ساحة الوغى، والحكيم الذي يستفيد الناس من تجاربه، وقد وظف لأجل ذلك معجما متنوعا وصورا متعددة وإيقاعا غنيا متنوعا متناغما ،و نصل مما سبق ذكره ونشره أن الشاعر يحتذي القدماء ويسير على خطاهم سواء في بناء القصيدة أو اللغة أو الصور أو الأغراض،ومن الشعراء الذين قلدهم نذكر امرؤ القيس في وصف الفرس وعمرو بن كلثوم في الفخر والمتنبي في الحكمة،وهكذا نصل إلى إثبات صحة الفرضية وانتماء النص إلى شعر إحياء النموذج ،وعموما نجح الشاعر في تمثيل هذا الاتجاه كما وفق توفيقا باهرا في تقليد القصيدة القديمة.فهل ظل النجاح حليفه في سائر القصائد الأخرى؟


هناك تعليق واحد: