السبت، 11 أكتوبر 2014

القراءة التحليلية لظاهرة الشعر الحديث-ثانية ادب-

ظاهرة الشعرا لحديث

أحمد المعداوي

القراءة التحليلية

الإشكالية :

يبدو من خلل عنوان المؤلف أن المعداوي بصدد التعريف بحركة الشعر الحديث .. لكن هذا الافتراض يتبدد بالانتباه إلى خاصية الحوارية التي ميزت المؤلف وعمت كل فصوله .. وهي تتجلى في كثرة الردود المعلنة والمبطنة على النقاد والدراسين الذين تناولوا الظاهرة بالدراسة ..

هكذا نستطيع القول بأن المؤلف يطرح إشكالية تحديد الموقف من الظاهرة فضلا عن التعريف بها .

موقف المعداوي من الظاهرة واضح وهي أنها حركة تجديدية مشروعة تستجيب للتحولات التي مست كل مناحي الحياة العربية وأفرزت واقعا جديدا .. وهي نتيجة لمجموعة من العوامل هي :

- عجز الشعر الرومانسي عن تجاوز إغراقه في الذاتية وتعبيره عن المعاني المرتبطة باليأس والانهزامية والخنوع والاستسلام .

- توفر هامش كبير من الحرية لدى الشاعر الحديث لم يتوفر من قبل لغيره ، وذلك بسبب سقوط القداسة عن الوجود العربي التقليدي إثر نكبة فلسطين .

- احتكاك الشاعر الحديث بالثقافة الإنسانية جميعها وتنوع مصادر معرفته التي أغنت تجربته .

هذه العوامل تجعل من تجربة الشعر الحديث تجربة فريدة من نوعها في مسار تململ القصيدة العربية عبر التاريخ . وهي نفسها ما يمنحها أصالتها وخصوصيتها ..

بهذا يدفع المعداوي الاتهام القائل بأن حركة الشعر الحديث هي محض تقليد للغرب وأنها استمرار للتجربة الذاتية التي لم تكن تمت إلى الواقع العربي بصلة .

هذا الموقف وإن كان يختلف عن مواقف الكثيرين ممن تخوفوا من وقوع القصيدة الحديثة في مستنقع المعاني الذاتية ينسجم إلى حد كبير مع موقف ورأي ناجي علوش في تقديمه لديوان بدر شاكر السياب حيث يرى أن سقوط القداسة عن الوجود العربي التقليدي بفعل نكبة فلسطين هو ما أفرز هده التجربة .

القضايا :

في سياق تحديد موقفه من ظاهرة الشعر الحديث يثير المعداوي جملة من القضايا أهمها :

صراع التجديد والتقليد : هذه قضية قديمة إذ كلما كانت هناك حركة تجديدية تتجاوز ما هو قائم كلما كان لها خصوم ومؤازرون . وهي لذلك ترتبط بالصراع الأبدي بين أنصار القديم المدافعين عنه وبين أنصار الجديد المتحمسين إليه ..

والمعداوي باعتباره حركة الشعر الحديث حركة حضارية ناشئة تجد جذورها في تربة الواقع الذي أفرزته النكبة ، يقف في صف التجربة ويؤازرها ويعلل وجودها ويدافع عنها ويصحح ما يراه سوء فهم لها ، ويرد مواقف المعادين لها إلى التعصب والتمسك بالماضي وتقديسه ، وهذا ما يفسر الطابع الحواري الذي ينحوه في مختلف فصول المؤلف .

العلاقة بين الشكل والمضمون : إن فهم العلاقة بينهما هو ما يحدد الموقف من ظاهرة الشعر الحديث .. فالمضامين المتطورة الخصبة في نظر المعداوي هي وحدها القادرة على تفجير الأشكال .. فالمضمون هو ما يفجر الشكل أي يخلقه دون أن يكون تطور أحدهما متفاوتا عن تطور الآخر .. هما يتطوران بشكل متزامن لا يسبق أحد الآخر * والمضمون حين يفجر الشكل لا يعني أن أهم ما في القصيدة هو مضمونها لأن المضمون خارج الشكل يبقى مجرد مادة خام وفوضى ..

هكذا ينظر المعداوي إلى الشكل باعتباره إطارا ينظم فوضى المضمون دون أن يكون مجرد قشرة خارجية .

هذا الفهم للعلاقة بين الشكل والمضمون هو ما قاد المعداوي إلى تبني موقف إيجابي من القصيدة العربية الحديثة ..

في المقابل كان خصوم القصيدة الحديثة ينظرون إلى الشكل والمضمون باعتبارهما منفصلين .وهذا ما أدى إلى الاعتقاد بتطور المضمون دون الشكل .. وهذا هو ما يبدو من خلال تسامحهم مع التطور الذي مس المضمون وعدم تسامحهم مع التطور الذي مس الشكل .

العلاقة بين الشعور والتعبير : هذه ذات صلة بسابقتها .. المعداوي ينظر إلى التعبير ( الشكل ) كملك للشعور ( المضمون ) بينما ينظر الخصوم إلى الشكل باعتباره مقدسا مكتملا لا حاجة له في التطور لأنه بلغ ذروته وإن كان المضمون يتطور ..

الأصالة والاستيراد :حين لاحظ بعض الدراسين استشراء نغمة الكآبة التمزق والضياع في الشعر الحديث عزوها إلى ثلاثة عوامل :

- التأثر ببعض الشعراء الغربيين مثل ت س إليوت خاصة بقصيدته الأرض اليباب ،

- التأثر ببعض الرواائيين والمسرحيين الوجوديين الذين ترجمت أعمالهم إلى العربية مثل أبير كامو وجان بول سارتر ،

- اتساع دائرة معرفة الشاعر ونهله من بحور مختلفة .

بهذا فهم يعتبرون تجربة الشعر الحديث تجربة مستوردة من الغرب وأن لا علاقة لها بالواقع العربي ..

لكن للمعداوي رأيا آخر هو أن هذه ليست هي المصادر الوحيدة للتجربة إذ أنها تجد جذورها في تربة الواقع العربي الذي أفرزها وما التعبير عن معاني الغربة والضياع إلى بسبب النكبة التي حولت الواقع إلى خراب وسارت بالشاعر الحديث في دروب ملتوية يسودها الدمار ..

المنهج النقدي :رغم كثرة التوطئات لم يخصص المعداوي ولو واحدة منها للتعريف بالمنهج النقدي الذي يتبعه في دراسة ظاهرة الشعر الحديث .. والملاحظ لكيفية تعامله مع النص وللجهاز المفاهيمي الذي يتوسل به يتضح له أنه لا يوظف منهجا واحدا بل يعمد إلى الاستفادة من مناهج مختلفة أهمها :

المنهج الاجتماعي التاريخي :

هو المهيمن على الدراسة ونكتفي بإعطاء بعض الأمثلة لتوضيحه .

يربط المعداوي ظاهرة الشعر الحديث بنكبة فلسطين التي أسقطت الوجود العربي التقليدي ومنحت هامشا من الحرية للشاعر كي يعبر عن تجاربه .. وبهذا فهو يجعل من النكبة ، باعتبارها عاملا تاريخيا كانت له انعكاساته الاجتماعية والنفسية ، عاملا متحكما في إنتاج حركة الشعر الحديث

يربط المعداوي تأرجح تجربة خليل حاوي الشعرية بين معنيي الأمل واليأس بتأرجح الواقع العربي بين المخاض وبين العقم .. ففي الفترات المشرقة كتأميم قناة السويس مثلا عامل على نشر الإحساس بالأمل في نفس الشاعر ، وفي الفترات المظلمة كانفراط عقد الوحدة بين سوريا ومصر مثلا عامل على نشر الإحساس باليأس في نفسه ..

يرد أغلب الدارسين شيوع نغمة الكآبة والتمزق والضياع في الشعر الحديث إلى التأثر بالغرب بينما يردها المعداوي إلى الواقع العربي المر في زمن النكبة ..

يتضح من خلال هذه الأمثلة أن المعداوي ينظر إلى حركة الشعر الحديث من زاوية كونها إفرازا للواقع العربي .. فهو يفسر وجودها ومضامينها من خلل ربطها بالعوامل التاريخية والاجتماعية التي تحكمت فيها وهي في نظره عوامل مرتبطة بزمن النكبة ..

هكذا يبدو أن المعداوي ينظر إلى حركة الشعر الحديث من زاوية علم الاجتماع الأدبي الذي يعتبر النص = العمل الأدبي وثيقة دالة على الحياة الاجتماعية للأديب ، ويشترط المعرفة بالعوامل المتحكمة فيه لفهمه وتأويله ..

هكذا أيضا تكون القراءة التي يقدمها المعداوي لظاهرة الشعر الحديث قراءة من الخارج تتم على ضوء عوامل خارجية موجودة خارج النص ..

المنهج النفسي :

يعمد المعداوي إلى قراءة بعض الظواهر في الشعر الحديث خصوصا تلك المتصلة منها بالخيال الشعري والبنية الموسيقية من منظور نفساني .. فهو يفسر تفتيت الشعراء المحدثين لبنية البيت الشعري التقليدي واعتمادهم نظام السطر والجملة الشعرية برغبة الشعراء في توفير قدر من الحرية لدفقاتهم الشعورية كما يفسر التزام عبد الوهاب البياتي بالإطار الموسيقي القديم في بعض قصائده بعدم التعارض مع تجربته وهذا ما يعني أن الشاعر لا يتجاوز هذا الإطار إلا إذا كان يحد من حريته ويلجم التعبير عن تجربته . كما يفسر ظهور التيار الذاتي في الشعر العربي بانهيار شخصية الفرد المصري وتطلعه إلى رد الاعتبار إليها ، وشيوع وقائع من حياة الشاعر وتجاربه الخاصة في شعر جماعة أبولو .

هكذا يبدو أن المعداوي ينظر إلى الظاهرة الأدبية من زاوية كونها تعبيرا عن نفسية الشاعر وتجاربه الخاصة في الحياة ، ومن زاوية كونها وثيقة دالة على الحياة النفسية التي لابد من استحضارها الفهم والتأويل .

المنهج البنيوي : لئن كان المعداوي غالبا ما يلجأ إلى دراسة الظاهرة من خارجها باستحضار العوامل التاريخية والاجتماعية والنفسية التي تتحكم فيها ، فهو لم يغفل ولو في قليل من الأحيان دراستها من الداخل باعتبارها بنية لغوية دالة تحتاج لفهمها وتأويلها تفكيك عناصرها والبحث في وظائفها وكيفية أدائها التعبيري والجمالي . يبدو ذلك واضحا من خلل توقفه عند بيت الخنساء ومساءلته باستنطاق الحروف اللينة ووظيفتها الموسيقية والتعبيرية دون أن يربط وجودها بأي عامل خارجي اجتماعيا كان أو نفسيا .

هكذا يبدو أن المعداوي يتوسل في بعض الأحيان بالمنهج البنيوي الذي يحدد مجال اشتغاله في النص بما هو نظام لغوي دال مغلق ..

المنهج الموضوعاتي: في دراسته لظاهرة الشعر الحديث يحصرها المعداوي في تجربتين (موضوعين ) هما تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت .. وبهذا فهو يتجاوز دراستها بناء على أدواتها الفنية ووسائلها التعبيرية إلى دراستها من زاوية المضمون الشعري .

المفاهيم :
تتعدد المفاهيم بتعدد الأطر المرجعية التي ينطلق منها المعداوي في دراسته لظاهرة الشعر الحديث .. وهكذا يمكن تصنيفها في الحقول المعرفية التالية :

مفاهيم متصلة بحقل الشعر : بما أن موضوع الدراسة هو الشعر ، فالمعداوي يوظف مفاهيم متصلة به مثل : الشاعر ، الشعر ، القصيدة ، البيت ، السطر ، الجملة الشعرية ، البنية العروضية ، الصورة الشعرية ، الشكل ، المضمون والوقفة ...

وهي مفاهيم منها ما هو قديم مثل البيت ، الوزن ، القافية ، الروي .. ومنها ما هو جديد مثل : السطر ، الجملة الشعرية ، القافية المتراوحة ...

مفاهيم متصلة بعلم الاجتماع الأدبي : الواقع ، الحقبة ، الفترة ، الوجود العربي التقليدي ....

مفاهيم متصلة بعلم النفس : الشخصية ، الدفقة الشعورية ، الذات ، الفرد ، اللاوعي ، الإحساس ، العواطف ، اليأس ، الأمل ، التمزق ، الضياع ...

يبدو أن المعداوي يستفيد من كل المفاهيم التي يراها قادرة على توضيح رأيه وموقفه من ظاهرة الشعر الحديث كما استفاد من مناهج متعددة .

الإطار المرجعي :
يتعدد بدوره بتعدد المناهج الموظفة ..

علم الاجتماع الأدبي : وأدبياته تنص على أن النص ظاهرة من أنتاج جماعي تتحكم فيها العوامل التاريخية والاجتماعية والبيئية المحيطة بالشاعر ، وهو بذلك يشكل وثيقة دالة على المجتمع الذي ينتمي إليه ، كما يشترط تفسير النص الأدبي على ضوء العوامل المتحكمة في إنتاجه ..

علم النفس : وأدبياته تنص على أن النص الأدبي إنتاج فردي تتحكم فيه نفسية الشاعر وتجاربه في الحياة ، وهو يشكل بذلك وثيقة دالة على الحياة النفسية للأديب ينبغي أن تدرس على ضوء العوامل المتحكمة فيها ..

النقد البنيوي : قام على أساس فكرة هي موت المؤلف .. أي أن الناقد لا يهتم إلا بالنص الأدبي باعتباره لغة تخضع لنظام محدد وتخلق شبكة من العلاقات الدلالية التي يجب الكشف عنها من خلل التعرف على الوظيفة الدلالية والجمالية لكل عنصر من عناصر النص .. فإذا كان مجال اشتغال الأديب هو الواقع فإن مجال اشتغال الناقد هو النص ولا شيء غير النص .

الفلسفة الوجودية : يلتمس المعداوي العذر للشعراء الذين خاضوا في دروب معاني التمزق والضياع بكونهم يعبرون عن إحساسهم بالوجود ، بل هم في رأيه يمارسون وجودهم في واقع خرب فرضته النكبة حتى وإن كانوا على احتكاك واسع بالثقافة الغربية في شقها الوجودي .

الميتولوجيا : يبدو استثمارها من قبل المعداوي من خلل جرده لقائمة من الأساطير والرموز ذات الصلة بمعاني الحياة والموت والتي توسل بها الشاعر الحديث لإغناء وسائل تعبيره عن تجاربه ..

لغة المؤلف :
تتأرجح اللغة بين التقرير والمباشرة أحيانا وبين الخرق والانزياح أحيانا أخرى .. فالمعداوي حين يقدم للحديث عن تجربة الغربة والضياع في الفصل الثاني يغلب عليه الطابع التقرير حتى ليكاد يتحول إلى مؤرخ ، وحين يتحدث عن ثقافة الشاعر الحديث واكتشافه للرموز والأساطير يعمد إلى لغة طافحة بالظواهر البيانية والصور البلاغية ولذلك فهو يحقق البلاغتين معا : بلاغة الإقناع وبلاغة الإمتاع ..

وتمتاز لغة المؤلف بطابعها الحواري حين تجنح إلى التقرير والمباشرة .. والمحاورة تعتمد التناص الداخلي ( محاورة فصول المؤلف بعضها ) :

في حديثه عن التعبير بواسطة الصورة الشعرية في الشعر الحديث في الفصل الرابع مثلا ، يذكر المعداوي بما أورده في الفصل الأول وبالضبط في القسم الثاني في معرض حديثه عن بوادر الشكل الشعري الجديد ..

التناص الخارجي ( محاورة المؤلف لكتب أخرى وردت فيها آراء تم الرد عليها ) .. يبدو ذلك من خلل الردود الصريحة على نازك الملائكة وعز الدين اسماعيل ومحمد النويهي ، والضمنية على خالدة سعيد ..إذ يسعى إلى تفنيذ أرائهم أو على الأقل التصريح بعدم الاقتناع بها .. وهذه الحوارية هي ما يعطي لغة المؤلف طابعا سجاليا حجاجيا غالبا ما يلجأ فيه إلى طرح سؤال قد يجيب عنه وقد يتركه معلقا .

القراءة التركيبية :

المؤلف دراسة نقدية يتوخى منها المعداوي إبراز موقفه من ظاهرة الشعر الحديث وفهمه لها ، وقد توسل في هذه الدراسة بمناهج مختلفة بحكم انطلاقه من مرجعيات مختلفة منتهيا إلى أن الحركة تعبر عن واقع حضاري خرب ساده الإحساس بالضياع والتقلب بين الإحساس بالحياة والموت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق