الجمعة، 16 يناير 2015

مميِّزاتُ القصَّةِ القصيرةِ واتِّجاهاتُها

ظهرتِ القصَّةُ القصيرةُ بمفهومها الحديثِ في الأدبِ العربيِّ منتصَف القرنِ 19م وازدهرَتْ إبَّانَ القَرن 20م ، وهيَ بذلكَ فنٌّ مُستحدثٌ ظهرَ نتيجةَ التَّلاقُح مع الثَّقافةِ الغربيَّة والتَّرجمةِ عنْ آدابِها و كَذَا انتشارِ الصِّحافة، ويتميَّزُ هذا الفنُّ بخصائصَ أهمُّها: وحدةُ الانطباع، والكثافَة الشِّعريَّة، ودقَّةُ التَّصميم، والاختزال. والقصَّة القصيرة في أبسط تَعاريفِها "فنٌّ دراميٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوارُ والسَّرد، قليلُ الكمِّ يُقْرَأُ في جَلْسة واحدةٍ، يتميَّز بوحدةِ الانطباعِ"، ويلتقط الومضة المشرقة وينقل اللّمحة الخاطفة ، ومن روَّاد هذا الفنِّ الجديد في أدبِنا نذكرُ: طه حسين، ويحيى حقِّي، وعبد الكريم غلاَّب، إضافةً إلى محمود تيْمور و زكريَّا تامر. وبعدَ أن نضجَ فنُّ القصَّة القصيرةِ واستَوَى على سُوقه وصار قابِلا للتَّناول والمقاربة النّقديّةِ، ظهرت دِراساتٌ نقديَّة ترُومُ التَّعريفَ به وإبرازَ خصائِصه وتجنيسَه ورصد تطوُّرِه، ومِن أبرزِ النُّقاد الذين نبَغوا في مجالِ النَّقد القصصيِّ نذكر: شكري عيَّاد، وصلاح فضل، ومحمد برادة، وسعيد يقطين ... ويعدُّ محمد عزّام من أبرز الذين عَرَّفُوا بفنِّ القصَّة واتِّجاهاتها الفنيَّة، له عدَّةُ مؤلَّفاتٍ نذكرُ منها " النَّقد والدّلالة " و" البطل الإشكاليُّ في الرِّواية العربيَّة المعاصرَة "، وقد اقْتُطِفَ النَّصُّ موضوعُ الدِّراسةِ من كتابه الموسومِ ب " اتِّجاهات القصَّة المعاصرة في المغرب ". فما القضيَّة التي يعالجها ؟ وما طرُق عرضِها ؟ وما المَقصديَّة التي رامَ إيصالها ؟
جاءَ عنوان النَّصِّ " مميِّزاتُ القصَّة القصيرةِ واتِّجاهاتُها" متَّسِماً بالطُّولِ ومُكوَّناً من جزْأَين يفصلُ بينهما واو العطف، ويُشكِّلان جملةً اسميَّةَ تُشكِّل مبتدأً خبرُه " متْنُ النَّصِّ "، ومن النَّاحية الدَّلالية يُقصَد بالمميِّزات الخصائصُ والسِّماتُ التي تميِّز شيئا ما عن غيره ، أمَّا القصَّة القصيرة فهيَ ذلك الجنسُ الأدبيُّ السَّرديُّ المعروفُ بقصَر حجمِه، ويُقصدُ بالاتِّجاهاتِ المدارسُ والتَّيَّاراتُ، ونَفهمُ من العُنوانِ أنَّهُ يُحيل على ما تتميَّزُ به القصَّةُ القصيرةُ من خصائصَ شكليةٍ ومضمونيَّةٍ ، وكذا ما تتفرَّعُ إليه منْ تيَّاراتٍ ومدارسَ. فإلَى أيِّ حدٍّ يعكسُ العنوانُ مضمُونَ النَّصِّ ؟
وانطلاقاً من عنوان النَّصِّ " مميزاتُ القصَّة القصيرة واتِّجاهاتها " وشكله الطّباعيّ، واتِّكاءً على جملةٍ منَ المُؤَشِّرات النَّصِّيَّة الدّالة مثل: " نشأة القصة، حاجة اجتماعية، التعبير الفنّيّ، شعور خاطف، لحظة من عمر الزَّمن، فنٌّ موجَزٌ وسريع، تختلف مناهج القصة القصيرة واتجاهاتها.. "، نفترض أنَّ النَّصَّ الذي بين أيدينا عبارةٌ عن مقالة أدبيّةٍ يروم من خلالها الكاتب التَّعريفَ بفنِّ القصَّةِ القصيرة وأهمِّ خصائصه الشَّكليةِ والمضمونيَّةِ وأبرزِ تيّاراتِه الفنيّة. فإِلى أيِّ حدٍّ تصحُّ هذه الفرضيّة ؟ وما الوسائلُ الفنّيّة الموظّفة من لدُنِ الكاتبُ ؟
عالج الكاتبُ قضيَّةً رئيسيَّةً تتمثَّلُ في "إبرازِ خصائص القصَّة القصيرة وتيَّاراتها"، وقد تفرَّعت عن هذه القضيَّةِ قضايا أخرى ذاتُ صلةٍ وطِيدة بها، نبيِّنُها فيما يلي :
- علاقةِ القِصَّة بمَقْصِدِيَّة مُبْدِعِها : عالج الكاتبُ هذه القضيَّة عندَ تطرُّقه إلَى مسألةِ الحاجَةِ الاِجتماعيَّةِ والحاجةِ الفنِّيَّةِ، ومعنَى ذلكَ أنَّ كاتِبَ القِصَّةِ القصيرَةِ يُعَبِّرُ عن المجتمع،كما يحرِصُ على تطوير الشّكل الفنّيّ؛
- المصطلحِ النَّقدِيِّ بالنسبَة للقصَّةِ القصيرةِ : أشَار الكاتبُ إلى هذه القضيَّةِ في مَعْرِضِ حديثِه عن صعوبة نقْدِ القصّةِ القصيرةِ بِخلافِ الشَّعر والرِّوايةِ، نظراً لعدم وُجُودِ مصطلحاتٍ نقديَّةٍ تُساعدُ على الحُكمِ عليْها، والسّبب في ذلك جِدَّتُها وحداثَةُ ظهورِها؛
- تلقِّي القصَّة القصيرةِ: أشار الكاتبُ إلى تلقِّي القصَّة القصيرة من خلالِ الحديثِ عن الوقت الزَّمنِيِّ الذي يصلُح لقراءَتِها ويكفِي لتلقّيها، كما أشار إلى أنَّ مُبْدِعَ القصَّة القصيرة يُراعي المتلقِّي الذي لا يَمْلِك الوقتَ الكافِيَ لقراءةِ فنِّ الرِّوايةِ؛
الوظيفةُ الاجتماعيَّةُ للقصَّةِ : تطرَّقَ الكاتبُ إلى كوْنِ القصَّةِ القصيرةِ تُعْنَى بِرصْد أمورِ المُجْتَمَعِ وقضاياهُ وهُمومِه، وتَسعَى إلى القضاءِ على أمْراضِهِ وأخطائِه؛
- التطوُّرِ الفَنِّيِّ : تطرَّقَ الكاتبُ إلى تطوُّر القصَّة القصيرة فنِّيّاً، حيثُ أصبحَ كتَّابُها يُعْنَوْنَ بالجانبِ الجمالِيِّ والشَّكْلَيِّ، إضافةً إلى عنايَتِهم بالجانِب المضمونِيِّ، كما تطرَّقَ إلى هذهِ القضيَّة عنْدَ حديثِه عنْ تطوُّر تيَّاراتِ القصَّة القصيرةِ.
←يتَّضحُ ممَّا سبقَ ذِكْرُه وتفصِيلُه أنَّ الكاتبَ استطاعَ بإثارَتِه لسائِرِ القضايا المنْبَثِقَةِ عن القضيَّةِ الرَّئيسيَّة تسليطَ الضَّوْءِ على نشأَةِ القصَّةِ القصيرةِ وتطوُّرِهَا فنِّيّاً، مِمَّا قرَّبَ الفكرةَ إلى ذهن المتلقي بعيداً عنِ الغُموضِ ودرءاً لكلِّ سوء فهمٍ أو عِوَجِ تأويلٍ.
وإذا انتقلنا ناحيةَ طرائقِ العرْض ألفَيْنا الكاتبَ ينوِّعُ في أساليبِ عرْضِ فكرَتِه، وهكَذَا وجدْناه يركِّزُ على أساليبِ التَّفْسيرِ؛ حيثُ وظَّفَ التَّعريفَ لبيانِ خصائِصِ الشّيْءِ المُعَرَّفِ وتوضيحِه في ذهنِ القارئِ، ويتمثَّلُ ذلك في تَعرِيفِه القصَّةَ من خلال قولِه : "هي شعورٌ خاطفٌ ولحظة من عمر الزمن – والقصة القصيرة فنٌّ دراميٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوار والسّرد... "، وإلى جانبِ التَّعريفِ نجدُ اعتمادَ الكاتب على الوَصْفِ كما في قوله : " فنٌّ دراميٌّ أداته اللغة – وهو فنَّانٌ شديد الفرديَّة.."، ونجدُ اهتمامَه الكبيرَ بالسَّرْدِ الذي يؤدِّي وظيفة تفسيريّة توضيحيَّةً إخباريةً، ومن أمثلته في النَّصِّ " والقصة القصيرة تعرفُنا بشيء نعرفُه مسبَقاً، ونعيده يوميّاً، وهي تعرضُه في شكلِ لقطةٍ أو جزئيَّة ما، أوفكرةٍ محددة "، ورابعُ أساليب التفسير الموظفةُ في النَّصِّ هو التَّشابُه حيثُ عرَضَ الكاتبُ للتَّداخُلِ والتَّشابُهِ بين فنَّيْ القصة القصيرة والشِّعر في "الكثافة الشعريَّة" و بين الرِّواية والقصَّة القصيرة في "التَّعبير عن الحياة الاِجتماعيَّة" والقيام عَلَى "السَّرد والحوار والوصف" ، وقد أدَّتْ الأسالِيبُ السَّابقةُ مجتمعةً دوراً في إيضاحِ فِكرةِ الكاتبِ وبيانِها تمهيداً لإقناعِ القارئِ بقدرةِ هذا الفنِّ الجديدِ على التَّعبيرِ عنِ المجتمعِ ومعالجةِ أمراضِه.
وفيما يخُصُّ السَّيرورة الحِجاجيَّةَ المعتمدة فقدِ اختارَ الكاتبُ الأسلوبَ الاستنباطِيَّ في بناء نصه، حيثُ انتقل منَ العامِّ إلى الخاصِّ ومن الكلِّ إلى الجزءِ؛ إذ بدأ النَّصَّ بالإشارة إلى نشأة القصّةِ القصيرةِ لينْتَقل بعدَ ذلك إلى رصْد خصائصها بِمُجْمًلِ تيَّاراتها ووظيفتِها، وإلى جانب الأسلوبِ الاستنباطيِّ اعتمدَ الكاتبُ أسلوبَ الجرْدِ أيْ تعريف الظَّاهرةِ" القصَّةُ القصيرةُ " من خلال جرْدِ مكوِّناتها، وهكذا وجدناه يعرِّفُ بالقصَّةِ القصيرةِ ويْجرُد مكوِّناتها من لغةٍ وأسلوبٍ وسردٍ وحوارٍ وكمٍّ ووظيفةٍ ودراما.
ويكمُن دوْر الأسلوب الاستنباطيِّ ومعهُ أسلوبُ الجرْدِ في التدرُّج في عرض الفكرة وتوضيحها عبْر التفسير والتفصيل، حتَّى تستحيلَ واضحةً في الذِّهنِ.
عمِل الكاتبُ في نصِّه على التَّعريفِ بالقصَّةِ القصيرةِ وظروفِ نشأتها، كما رصَدَ جملةً من خصائصها وتياراتِها دونَ أن ينسى الإِلْماعَ إلى وظيفتِها، وقدْ قصد من خلالِ نصِّه إلى بيانِ قدرةِ القصَّة القصيرة على نقْدِ المجتمعِ منتصِراً لهَا على حساب الرِّوايةِ، وقد استخدَم من أجل ذلك وسائلَ عدَّة تنوَّعت بيْنَ اللُّغةِ العلميَّةِ والجُمَلِ الطَّويلةِ وطرائقِ العرضِ المختلفةِ من تعريفٍ وسردٍ وتشابهٍ ، إضافةً إلى الرَّوابط التي أدَّت دورا في إحكام التَّرابط اللُّغويِّ والدَّلالِيِّ والعُضويِّ بين مكوِّناتِ المقالةِ ووظيفةً في تدرُّجِ الفكرةِ وبنائها ، أضفْ إلى ذلك تعدُّدَ الإطاراتِ المرجعيَّة وتنوُّعَ المفاهيم، كلُّ هذا ساعَدَ الكاتبَ في عرْضِ فكرتِه ومناقشَتِها، وبناءً على ما سبَقَ نَصِلُ إلى إثباتِ صحَّةِ الفَرضيَّةِ وانتماءِ النَّصِّ إلى جِنْسِ المقالةِ الأَدبيَّةِ التي يعالج فيها الكاتبُ خصائص القصَّة القصيرةِ. ونَعتقدُ أنَّ الكاتبَ قد وُفِّقَ في دفاعه عنْ فنِّ القصَّة القصيرة، لكنَّنا لا نتَّفقُ معه في كونِْ القصَّة القصيرة هي القادرة وحدَها على نقْدِ الواقِع، لِأَنَّ وظيفةً مثل هاتِه تحتاج إلى تضَافُر الفُنونِ كلِّها .فإِلَى أيِّ حدٍّ تمثَّلَ كتَّابُ القصَّةِ القصيرةِ خصائصَها إبَّانَ كتابتِها وإبداعِهَا ؟


الأربعاء، 14 يناير 2015

ظاهرة الشعر الحديث أحمد المجاطي قراءة تركيبية

ظاهرة الشعر الحديث أحمد المجاطي قراءة تركيبية
 
" ظاهرة الشعر الحديث " دراسة نقدية تتبعت مسار تطور الشعر العربي الحديث ،والبحث في العوامل التي جعلت الشاعر ينتقل من مرحلة الإحياء والذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد ، مع رصد العوامل والتجارب التي غذت التجديد في الشعر العربي على مستوى المضمون من خلال تجربة الغربة والضياع ،وتجربة الموت والحياة ،مع ما تتميز به كل تجربة من مظاهر وخصوصيات ،وعلى مستوى الشكل والبناء الفني من خلال اللغة والسياق وآليات التعبير وخاصة الصورة الشعرية والأسس الموسيقية. فيبدأ الفصل الأول بتتبع التطور التدريجي في الشعر الحديث، ويبين من خلال المدخل الشروط اللازمة لتحقيق التطور والتي حصر أهمها في الاحتكاك الفكري بالثقافات والآداب الأجنبية وشرط التوفر على قدر من الحرية، حيث أن شرط الاحتكاك الفكري في الشعر العربي تحقق منذ العصر العباسي والأندلسي إلى العصر الحديث وانتهى إلى التخلص من التقليد والعودة إلى التجربة الذاتية. في حين أن شرط الحرية في الشعر العربي ظل محدودا ،مما ضيق مجال التطور في الشعر العربي.وقد لخص أهم أسباب غياب الحرية في هيمنة علماء اللغة على النقد الأدبي،والتقيد بنهج القصيدة التقليدية.إلى أن جاءت نكبة فلسطين التي زعزعت الوجود العربي التقليدي ، وفسحت مجالا واسعا للحرية ،فظهرت حركتان تجديديتان في الشعر العربي الحديث:حركة اعتمدت التطور التدريجي في مواجهة الوجود العربي التقليدي،وحركت ظهرت بعد انهيار الوجود العربي التقليدي وكان التجديد عندها قويا وعنيفا يجمع بين التفتح على المفاهيم الشعرية الغربية ،والثورة على الأشكال الشعرية القديمة. ليستنتج من هذه التحولات العوامل العامة التي كانت وراء بلورة حركة التجديد وحصرها في : عوامل تاريخية: وتتمثل في امتداد الرغبة في التطوير عبر العصور،و اتساع مجال التفتح على ثقافات الأمم الأخرى. عوامل فكرية : وتتمثل في التشبع بالمفاهيم الشعرية الغربية.(كعامل مؤيد)وهيمنة علماء اللغة على النقد العربي .(عامل معارض) عوامل سياسية:غياب الحرية فرض وثيرة التدرج في تطور الشعر العربي.(عامل معارض)و نكبة فلسطين شجعت على التحرر والثورة.(عامل مؤيد) عوامل اجتماعية: التشبث بالوجود العربي التقليدي المحافظ.(عامل معارض)و انهيار عامل الثقة في الوجود العربي التقليدي. (عامل مؤيد) لينتقل بعد ذلك في القسم الأول من الفصل الأول إلى البحث في العوامل التي أثمرت التجربة الذاتية وأولها انهيار تجربة البعث والإحياء ـ والتي كان لها الفضل في نفض رواسب عصور الانحطاط عن الشعر العربي ،وتوجه شعراء التيار الإحيائي نحو القصيدة العربية في أوج ازدهارها ونضجها ـ، فكانت انطلاقة التيار الذاتي مع مدرسة الديوان وتبلورت مع الرابطة القلمية وجماعة أبولو، حيث أجمع شعراء جماعة الديوان على وحدة مفهوم الشعر " إن الشعر وجدان"وإن تباين مفهوم الوجدان بين العقاد وشكري والمازني: فالعقاد : يرى الوجدان مزاجا بين الشعور والفكر ، وغلب الطابع الفكري على شعره.وشكري: يرى الوجدان تأملا في أعماق الذات بأبعادها الشعورية واللاشعورية ، وأهمل العقل.في حين أن المازني: يرى الوجدان تعبيرا عما تفيض به النفس من مشاعر ، والمعاني جزء من النفس.وبذلك تكون مدرسة الديوان قد مهدت الطريق للاتجاه الرومانسي الذي بدأت تظهر بوادره مع تيار الرابطة القلمية التي كان عامل الهجرة والغربةـ جسدا وروحا ولساناـ عاملا محفزا لنشأتها فوحد الذات الفردية لأدباء المهجر من خلال نظرتهم للكون والحياة وشجع على الهروب إلى الطبيعة والاعتماد على الخيال والاستسلام إلى حد القطيعة مع الحياة. ،وقد امتد اشعاع هذا التيار إلى داخل الوطن العربي مع جماعة أبولو ، فأصبحت ذات الشاعر مصدرا للتجربة الشعرية وهيمنتها على موضوع القصيدة إلى حد الإفراط في الهروب إلى الطبيعة والإغراق في الذات و الإحساس بالحرمان والعجز ،إلا أن إغراق التجربة في اجترار نفس الموضوعات (الحب ،الملذات، الفشل)عجل بموت التيار الذاتي . فجاءت نكبة فلسطين التي أخرجت الشاعر من قوقعة الذات إلى الحياة الجماعية تحدوه الرغبة في الخروج من دائرة التخلف وبناء الذات بعدما تشبع بالمفاهيم الشعرية الغربية، ووعى الشاعر بمسؤوليته في المجتمع. فجاء القسم الثاني من الفصل الأول ليحدد معالم هذا الشكل الجديد فكانت البداية مع مصالحة الشاعر لذاته ومجتمعه مع ما تطلبه ذلك من تحولات في القصيدة العربية سواء على مستوى اللغة ،وذلك بالانتقال من قوة ومتانة اللغة الإحيائية إلى لغة سهلة ميسرة دون ابتذال ،وقد كانت عند عباس محمود العقاد لغة الشعر عنده أقرب من لغة الحديث (ص:37 ) أما إيليا أبو ماضي فلغة الشعر اتخذت شكلا نثريا محضا (ص: 38 ) أو على مستوى الصورة إذ أصبحت للصورة الشعرية وظيفة بيانية تخص التجربة ،بدل الوظيفة التزيينية التي كانت عليها عند الإحيائيين (ص40ـ41 ). وكان الاهتمام بالوحدة العضوية واضحا عند أنصار الشكل الجديد عبر الربط بين الأحاسيس والأفكار مما جعل القصيدة كائنا واحدا (وحدة الفكرة ووحدة العاطفة وتسلسل الأفكار في إطار الموضوع الواحد )وقد نتج عن الربط بين المضمون والشكل الفني ربط القافية والوزن بالأفكار والعواطف الجزئية.فتولد عن ذلك انسجام القافية مع عواطف الشاعر تتبدل بتبدلها .(ص : 46) إلا أن هذا التوجه الجديد لقي مواجهة عنيفة تتمثل في رفض الخروج عن اللغة العربية الأصيلة والتشبث بالقافية العربية مما حد من وثيرة التجديد وجعله يتوقف عند المستوى الذي وصل إليه.(ص:49)،إضافة إلى عوامل داخلية عجلت بنهاية التجربة الذاتية:فعلى مستوى المضمون : نجد انحدار الشعراء إلى البكاء والأنين إلى حد الضعف ،أما على مستوى الشكل فيتمثل في الفشل في وضع مقومات خاصة بالتجربة الذاتية. وقد جاء الفصل الثاني ليضع تجربة الشكل الجديد للشعر العربي تحت المجهر ويقرب لنا مواضيعه وتجاربه وافتحاصها من الداخل والبداية كانت مع تجربة الغربة والضياع التي كانت عاملا من عوامل التحول ساهمت في ترسيخها نكبة فلسطين (1948) التي زعزعت الثقة بالموروث العربي القديم (ص:56) فاستغل الشاعر الفرصة للتحرر من سلطة الشعر التقليدي (ص:56) ،وينخرط في التخطيط والتدبير بدل التفرج والاجترار، وقد جعله تنوع مصادر ثقافته ـ بين العربية والغربيةـ في مستوى الحدث والتطلع عبر مساهمته في إنتاج الفكر والمواقف. (ص:59)معتمدا التاريخ والحضارة والأسطورة العالمية في التعبير عن هموم الإنسان العربي(ص:60). فقوة التحول في الشعر الحديث كانت بحجم قوة النكبة.(ص: 62)،وارتباط وثيرة التجديد في شكل القصيدة بتواصل النكبات ،حتى أصبح عدم التوقف عند شكل محدد علامة صحية تضمن استمرار التطور والتجديد يضاف إلى ذلك تأثر الشاعر بأعمال بعض الشعراء الغربيين وببعض الروائيين والمسرحيين الوجوديين ،فعرفت الغربة عدة مظاهر في تجربة الشعر الحديث : 1ـ الغربة في الكون : فقدان الأرض والهوية وما صاحبها من ذل وهوان . 2ـ الغربة في المدينة: مسخ المدينة وطمس هويتها مع الغزو الغربي عمق غربة الشاعر في وطنه . 3ـ الغربة في الحب : فشل التعايش وتحقيق السكينة حول الحب إلى عداوة قاتلة (ص:76) 4ـ الغربة في الكلمة: عجز الكلمة عن احتواء أزمة الشاعر ومعاكستها لرغبته. كما اعتمد الشاعر عدة آليات للتعبير عن هذه الغربة كتوظيف الرمز والأسطورة بكثافة لاختزال تجربة الغربة والضياع(ص:88) إلى حد إقرار الشاعر بحقيقة الموت : موت الأمة وموت الكلمة (ص:91) مع السعي إلى الخروج من الضياع نحو اليقظة والبعث. إلا أن التجاذب بين أمل البعث وخيبة الإخفاق، هيأ لدخول الشاعر في تجربة جديدة هي تجربة الموت والحياة نتتبع أطوارها مع الفصل الثالث حيث يتجاوز الشاعر مرحلة الغربة والضياع نحو الموت المفضي إلى البعث،فتم ربط نجاح تجربة الشاعر بمدى إيمانه بجدلية الموت والحياة ،واعتبار الشاعر الحقيقي هو من يواجه الموت بكل قواه كمعبر إلى الحياة،واعتبر الشعراء أن تجربة الغربة مشدودة إلى الحاضر بينما تجربة الموت والحياة مشدودة إلى المستقبل .فتحول الشاعر إلى مصدر الحكمة والتوجيه والحياة المتجددة ،مع التركيز على الرمز والأسطورة بمختلف مصادرها لنقل تجربته . فالشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) يرى أن التحول يمر عبر الحياة والموت و رَبَط الشاعر بالأمة فالتجربة "التقت فيها ذات الشاعر بذات أمته العربية " ص 118 ،وقد اعتماد الشاعر أدونيس على أسطورة الفنيق ومهيار لتأكيد امكانية الموت والبعث. أما الشاعر خليل حاوي فقد خض معاناة الحياة والموت عندما يرفض التحول ويقيم مقامه مبدأ المعاناة (معاناة الموت و معاناة البعث) إلا أن الشاعر يئس من البعث أمام التفسخ الذي يثمر الموت فاعتمد على أسطورة تموز للدلالة على الخراب والدمار، وإمكانية البعث مع العنقاء،ليقر بالبعث في النهاية ويحصره في الأجيال الجديدة وقد ربط الفشل في تحقيق البعث بتشبث الإنسان العربي بالتقاليد ، وتحقيق البعث مرهون بالقضاء على هذه التقاليد ص 144 .ويرى أن معاكسة الزمن لطموحه كان سببا في فشله .ص 146 أما الشاعر بدر شاكر السياب فتبنى طبيعة الفداء في الموت ،ويرى أن الخلاص لا يكون إلا بالموت، فالموت شرط البعث ،وربط بعث الأمة بموت الفرد و موت العدو لا يثمر بعثا. بينما الشاعر عبد الوهاب البياتي فقد تأرجح بين جدلية الأمل واليأس،فيرى أن جدلية الموت والحياة من شأنها أن تخلق الشاعر الثوري. ص 170.وقد مرت تجربة الشاعر بثلاث منحنيات ص 171 + المنحنى الأول : انتصار ساحق للحياة على الموت (منحنى الأمل)موت المناضل انتصار للحياة. +المنحنى الثاني : التساوي بين الحياة والموت (منحنى الانتظار)يبدأ بخط الحياة وينتهي بخط الموت . +المنحنى الثالث : انتصار الموت على الحياة (منحنى الشك )الشك في الحقائق والوقائع والبعث الزائف. وينتهي الكاتب في خاتمة الفصل إلى استخلاص آثار التجربة على الشاعر العربي أهمها :اشتراك الشعراء في الإحساس بمعنى الحياة والموت ،وحلول ذات الشاعر في ذات الجماعة كموقف موحد إلا أن عدم اهتمام المسؤولين بتنبؤات الشعراء كان وراء النكسة رغم قيام الشاعر بالمهام المنوطة به في كشف الواقع و استشراف المستقبل. إضافة إلى أسباب أخرى ساهمت في عجز الشاعر عن التواصل مع الجمهور منها: + عامل ديني قومي : الشك في التيار الشعري من أن يكون يحاول تشويه الشخصية الدينية القومية. + عامل ثقافي : التشبث بالشعر القديم ورفض التجديد. + عامل سياسي : خوف الحكام من المضامين الثورية ،ومحاربتهم الشعراء المحدثين. +عامل تقني : الوسائل الفنية المستحدثة حالت بين الشاعر والمتلقي . الجزء الثاني
وجاء الفصل اللرابع ليطرح الشكل الجديد المتمثل في الشعر الحديث الذي تجاوز التصوير إلى الكشف عن واقع الشاعر النفسي والاجتماعي والحضاري واستشراف المستقبل ، و ساهمت الوسائل الفنية في توضيح القيمة الفكرية ،ومدها بالقيم الجمالية حيث تحول الشاعر عن الوسائل التقليدية لعدم مناسبتها حياته المتغيرة في مضمونها وإطارها ص196،وربط أدوات تعبيره ووسائله الفنية باللحظة التي يحياها في طبيعتها الخاصة وهو ما يبرر تقارب الشعر الحديث في الأسلوب وطريقة التعبير واستخدام الصور البيانية والرموز والأساطير.(وحدة التجربة تفرض وحدة الوسائل) ص 198،و ارتباط نمو الشكل بطبيعة التحول والتجربة .
ولم تسلم لغة الشعر الحديث من رياح التطوير فتدرجت اللغة في التطور وفي اتجاهات مختلفة حتى أصبح لكل شاعر لغته الخاصة ،فمنهم من فضل العبارة الفخمة والسبك المتين والمعجم التقليدي سيرا على نهج القدماء (بدر شاكر السياب نموذجا )،ومنهم من انتقل إلى لغة الحديث اليومي كالشاعر أمل دنقل . كما نجد من سعى إلى السمو باللغة إلى حد الإيحاء والغموض، و شحن اللغة العادية بمعاني ودلالات جديدة بتحويلها إلى رمز وربطها بعالم الشاعر وهو ما جعل السياق اللغوي ينبع من الذات ليعود إليها . أما بالنسبة للصورة الشعرية فقد عمد الشاعر الحديث إلى الحد من تسلط التراث على أخيلته وربطها بآفاق التجربة الذاتية و التخلص من الصورة الذاكرة إلى الصورة التجربة،فأصبحت تتوزع الصورة بين مدلولها لذاتها ومدلولها في علاقتها بالصور الأخرى ومدلولها في علاقتها بتجربة الشاعر و تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث يمثل امتدادا طبيعيا لباقي التحولات السالفة ، حيث اعتمد الشاعر الحديث على الإيقاع التقليدي والتجديد في داخله مع إخضاع الموسيقى لتجربة الشاعر في تطورها وتنوعها فكان التغيير في أسس الموسيقى الشعرية يعتمد التدرج في التغيير من خلال الزحافات والعلل و تطعيم موسيقى البحر بالتنغيم الداخلي ،مع ربط طول السطر الشعري بالنسق الشعوري والفكري،و اقتصار الشعراء على بحور محدودة يتولد منها عدد جديد من التفعيلات .ص 240 ،و خضوع القافية للمعاني الجزئية داخل القصيدة ،و تفتت نظام البيت جعل القافية تتعدد في أحرفها و تنوع بتنوع الأضرب ارتباطا بالجملة الشعرية . وفي خاتمة الفصل ينفي الكاتب مسؤولية الحداثة على الغموض في الشعر الحديث ، وربط الغموض بعنصر المفاجأة في الشعر الحديث،فغموض الشعر يرجع إلى خروجه عن المألوف لكونه يقدم ما لا نتوقه وما لا نتوقعه وهو ما يؤكد الجهد الشاق في صدق التعبير المسؤول عن خفاء المعنى. والمتتبع لفصول مؤلف "ظاهرة الشعر الحديث" يلمس عن قرب العناية الكبيرة والمركزة التي خص بها الكاتب مؤلفه ، ويتبين ذلك من خلال المسار النقدي المعتمد عبر الفصول ، إذ كانت البداية بتحديد موضوع الدراسة النقدية: ظاهرة التطور في الشعر العربي وخصها بتقديم نظري حول الشروط الواجب توفرها لتحقيق التطور ثم البحث في وضعية شروط التطور في الشعر العربي،وأخيرا النتيجة المحصلة استقاها ميدانيا من تجارب الشعراء مع كل مرحلة من مراحل التطور ،ورصد مستويات ومظاهر التطور في الشعر العربي. ينطلق أحمد المعداوي في هذه الدراسة من منهج تاريخي فني يركز فيه على الجانب الفكري الثقافي الفاعل في عملية تطور الشعر العربي، ويتمثل المنهج التاريخي في تحقيب الشعر العربي زمنيا ( الشعر العباسي والأندلسي ومدرسة الديوان وجماعة أبولو وتيار الرابطة القلمية) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم.وما أفرزته من تحولات في الشعر العربي وللحفاظ على التتبع المنطقي اعتمد الناقد في دراسته التدرج التاريخي في تتبع نشأة الشعر الحديث اعتمادا على الوقائع التاريخية والتحولات الاجتماعية والفكرية المصاحبة، وهو ما يتوافق مع المنهج البنيوي التكويني خاصة وأن الكاتب يستخرج خصوصيات التجربة من خلال إنتاج الشعراء ويبحث في العناصر المتحكمة فيها،مما جعل الناقد يتوقف عند تيمة الغربة والضياع كمصطلح مشترك بين شعراء هذه التجربة يتشكل تبعا لوضعيات الشاعر مع الكون والمدينة والحب والكلمة ،و إشكالية الموت والحياة التي درسها اعتمادا على عينة خاصة من الشعراء دون احترام الأولوية والترتيب الزمني للشعراء بدأ بأدونيس ثم خليل حاوي ثم السياب فالبياتي، مع اهتمام خاص بتجربة الموت التي أعطاها حيزا متميزا عن تجربة الحياة فأسهب مع البياتي في المنحنى الثاني والثالث بينما السياب كان حضه من الاهتمام أقل . كما لم يغفل في دراسته النقدية الجانب الفني المشكل للقصيدة الحديثة انطلاقا من عناصرها الثلاث :اللغة والصورة والموسيقى ، وقد تتبع مظاهر التحول عبر الزمن ومن خلال تجربة بعض الشعراء . وحتى يبعد تهمة الفصل بين الشكل والمضمون في دراسته للشعر الحديث أكد منذ البداية على أن الشكل والمضمون يمثلان نسقا واحدا لا يمكن الفصل بينهما في فهم المعنى وإنما دراسة الجزء لفهم الكل وظل يؤكد على ذلك في دراسته للغة والصورة والإيقاع إذ لا يمكن استيعاب مدلولها إلا من خلال المضمون العام للقصيدة . إلا أن حدة الاستشهاد تضاءلت بشكل ملحوظ مع الفصل الرابع أمام هيمنة السرد النظري الذي يستحضر القواعد المشكلة للبناء الفني في الشعر الحديث ، وقد برر ذلك ضمنيا عندما قال أن "وحدة التجربة تفرض وحدة الوسائل " ص 198 ويبقى الأسلوب التقريري مهيمنا في هذه الدراسة النقدية، حيث يطغى أسلوب التعريف والوصف والسرد حتى الأعمال التطبيقية كانت حبيسة هذا الأسلوب. فاللغة تسير على نفس النسق اللغوي التقريري بما أنها تعتمد على معطيات تاريخية في تتبع مسار تجربة الشعر الحديث : تاريخية سياسية وتاريخية فكرية وتاريخية فنية ، والجانب الفني يبقى محصورا فيما يقدمه الكاتب من استشهادات شعرية يمكن تصنيفها في خانة التوثيق الذي يعطي للفصل الطابع التاريخي الرسمي تسيطر عليه ذاتية الناقد الذي يتحكم في توجيه عمله النقدي نحو أهداف محددة ،خاصة وأنه يركز على موضوع الغربة والضياع والحياة والموت دون غيرهم من الموضوعات الأخرى . الناقد في هذا المؤلف اشتغل على ثنائية متضادة من خلال أسلوب حجاجي يعتمد الأطروحة ونقيض الأطروحة ليبين كيف أن نقمة نكبة 1948 تحولت عند الشاعر العربي إلى نعمة جعلته يتخلص من سلطة الشعر التقليدي ، ويمارس حريته في الإبداع والتألق بعيدا عن التقليد ، والغربة ولدت الرغبة في البعث ،كما أن الموت اعتبر معبرا نحو الحياة، فكان التركيب هو الشكل الجديد الذي أصبح يميز تجربة الشعر الحديث. أما الثنائية الثانية فتتمثل في ربط استمرار التطور والتجديد في الشعر الحديث بتوالي النكبات التي اعتبرها الناقد محفزا قويا يزيد من وثيرة التجديد عند الشاعر إلى حد اعتبار النكبات ظاهرة صحية بالنسبة للشاعر والجودة الشعرية .