الأربعاء، 25 فبراير 2015


أَثْمرَ الانفتاحُ على الثَّقافةِ الغربيَّةِ وانتشارُ الصِّحافةِ والتَّرجمةُ عن الآدابِ الغربيَّة جملةً من الفُنونِ الَّتِي لم يكنْ للعربِ سابِقُ عهْدٍ بِهَا ولعلَّ أهمَّهَا المسرحيَّةُ، التي تُعدُّ فنًّا نثريّاً وافدا ومستَحدثا في أدبنا . إذ تقومُ على عناصرَ أهمُّها : الحدثُ ، والشَّخصيَّاتُ ، والفِكرةُ ، والزَّمان ، والمكانُ ، والحبكة ، وتَتَمَيَّز عن فنون السردِ الأخرى بخاصّية الصِّراعِ الدّْرامِيِّ والإرشاداتِ المسرحيَّة والحِوارِ . وقدْ بَرَزَ مَجْموعةٌ من الرُّوادِ في هذا الفَنِّ الْمُسْتَحْدَثِ أَثْرَوْا المكتبةَ الأدبيَّةَ بِمجموعةٍ من الإِبداعاتِ والتَّأْليفاتِ ، من بيْنِهم : مارُون النَّقَّاش ، ويعقوب صنُّوع ، وتوفيق الحكيم ،وعلي أحمد باكثير . وبِموازاةِ الكتابةِ والتَّأليفِ الإبداعيِّ عمِل النُّقَّادُ على التَّنظيرِ لهذا الفَنِّ الجديدِ مُبْرِزِينَ خَصَائِصَهُ ومُعَرِّفِينَ بهِ ، وساعينَ في الوقت نفسه إلى تقريبه من الجماهير ، ولعلَّ أبرزَهم عبد الله النَّديم والعقَّاد وتوفيق الحكيم وفرْحان بلبل الذي يعدُّ منْ أقطاب مرحلةِ النُّضجِ في النَّقدِ المسرحيِّ العَربِيِّ، وُلِدَ بسوريا ، لهُ عدَّةُ مؤَلَّفاتٍ منها : "المسرحُ العربيُّ في مواجهة الحياةِ". فما القَضِيَّةُ التي يطرحُها الكاتِبُ ؟ ومَا طرائقُ عرْضِها ؟
إنَّ المتأمِّلَ لعنوان النَّصِّ يجد أنَّهُ جاء جملةً اسميَّةً مكوَّنةً من مبتدأ معرَّفٍ بالإضافةِ " سماتُ النِّصِّ " ونعتٍ "المسرحيُّ" يُحَدِّدُ نوعيَّةَ النَّصِّ وجِنْسَه ، ودلاليا يُقْصَدُ بالسِّماتِ الخصائصُ والمميِّزاتُ التي تُميِّزُ شيْئاً عنْ آخرَ، أمَّا النّصُّ المسرحيُّ فهو ذلكَ التَّأليفُ الذي يَخْضعُ لضوابطَ معروفةٍ ويقُومُ على قواعدَ محدَّدَةٍ تَجْعله مُختلفاً عن فُنون الأَدَبِ الأخرى من قصّةٍ وروايةٍ وشِعْر ، ونفهمُ من العنوانِ أنَّ النّصَّ سيأخذُ على عاتِقِه مَهَمَّةَ تسليطِ الضَّوْءِ على خَصائِصِ النّصِّ المسرحيِّ. فإلى أي حد يعكس العنوان مضمون النص ؟
واتكاء على دلالة العُنوان، واعتماداً علَى بعضِ الْمُشيراتِ النَّصِّيَّةِ الأخرَى من قبيلِ " أوَّلُ سماتِ النّصّ المسرحِيّ ، ثالث سمات النّصّ المسرحيّ ، أخصَّ خصائص التأليفِ والعرضِ..." نفترضُ أنَّ النّصَّ قيدَ الدِّراسةِ ، مقـالةٌ أدبيَّةٌ يُعالِجُ فيها الكاتبُ خصائصَ النّصّ المسرحِيِّ. فإلـى أيِّ حدِّ تصحُّ هذه الفرضيَّـةُ ؟ وما الْمَقصدِيَّةُ التـي رامَ الكاتبُ إِيصالَها ؟

وفيما يَخُصُّ القضيَّةَ الرَّئيسيَّةَ فتتمثَّلُ في " إبرازِ خَصائصِ النَّصِّ المسرحِيِّ "، حيث أبرزُ الكاتبُ في نصِّهِ أعلاهُ السِّماتِ التي تُميِّز النّصَّ المسرحِيَّ وتَجعلُه ذا خصوصيَّةٍ وفرادَةٍ وهي على التَّوالِي : المعايشَةُ ، ويقصِدُ بهَا تعبيرَ المسرحِ عن مشاكلِ العصْرِ ، والآنيةُ وهي أنْ يعبِّرَ الكاتبُ عن وقائِعِ الحاضِرِ التي تَمسُّ القارئَ مباشرةً ، وثالثُ هذه السماتِ الدَّيْمومةُ، ويُشيرُ الكاتبُ بعضَ ذلك إلَى سِمَةِ أخْرَى هي الهدفُ الأعلَى مُعْتَبِراً إيَّاها من خصائصِ التَّأليفِ والعرْضِ ، ويرَى أنَّ هاتِهِ السِّماتِ تُشَكِّلُ آفةَ النّصِّ المسرحِيِّ وميزته.
وتتفرَّعُ هذه القضيَّةُ إلى قضايَا ذاتِ ارتباطٍ بِهَا تنطلقُ منها وتعودُ إليْها وتكشِفُ عنها، ونبرزها فيما يلي :
قواعدُ التَّأليفِ المسرحِيِّ : تطرَّقَ الكاتبُ إلى هذه القضيَّةِ في معرِض حديثهِ عن القواعد المميِّزةِ للتَّأليفِ المسرحيِّ التي تُعدُّ راسخةً في جميع المذاهبِ المسرحيَّةِ ، وحصَرها في ثلاثٍ : " الصِّراع ، تصاعُدُ الحكاية درامياً ، دقَّة بناء الشَّخصيَّات"؛
التَّجريبُ المسرحيُّ : ومعناهُ أنَّ الكاتبَ يسعَى على الدَّوامِ إلى معايَشة القضايا والمشاكلِ ، وهو ما يَجعلُه دائِم التَّجريبِ ، كثيرَ التَّجديدِ في المواضيعِ والأساليبِ ؛
علاقةُ المسرحِ بباقي الفنونِ : أشارَ الكاتبُ إلى أنَّ المسرحَ يدخُلُ في علاقاتٍ معَ الفنون الأخرى من شعرٍ وفنٍّ تشكيليٍّ وموسيقَى يستلهِمُ منها ويوحِي إليها ، أي إنَّ العلاقةَ بيْن المسرحِ وباقي الفنونِ قائمةٌ على التأثُّر والتَّأثيرِ؛
علاقةُ المسرحِ بالواقِعِ : يقومُ المسرحُ بعكْسِ الواقِعِ لِذَا فهو يُعَدُّ مرآةً لهُ؛
اَلْمَقْصِديَّةُ في المسرحِ : وهي الغايةُ التي يسعى إليها المسرَحُ ، وتتمثَّلُ في التَّعبيرِ عنِ واقعِ الإِنسانِ ورصْدِ انشغالاتِه.
وقدْ أسهمتْ هذه القضايا الفرعيَّةُ في إضاءَةِ القضيَّةِ الأساسيَّةِ وتسليطِ الضَّوءِ على سِماتِ النّصِّ المسرحيِّ نظراً لِمَا أدَّتهُ من دورٍ في التَّفسيرِ والتَّوضيحِ وتقليب القضيّة الرئيسيّة على أوجُهِهَا.

وفيما يتعلَّقُ بطرائقِ العرْضِ وظَّفَ الكاتِبُ بادِئ الأَمرِ جملةً من الحُججِ مُمَثَّلةً في استشهادِه بمقُولةٍ لستانسلا فسكي : " الفكرةُ التي أمسكَ الكاتبُ القلمَ لإبرازها " ، إضافة إلى حججٍ منطقيّة في قوله : " ولأنَّ الكاتب مضطرٌّ أن يكون ضارياً في التصوير فإن المجتمع لا يكون إلا ضارياً في التغيير " ، وإلى جانبِ الحجج السَّابقة وظّف الكاتب بعضَ أساليبِ التَّفسيرِ كالتَّعريفِ حيثُ عرَّف المعايشة بقوله " هي الصِّفة الأولى للمسرح - تَعني أنّه فنّ يُطلب منه أن يتحدث عن مشاكل عصرنا..." ، وكذا تعريفُه المسرح بكونه " جماع الفنون " ، وإضافةً إلى التَّعريفِ وظَّف الوصف ، حيثُ وصَفَ سِمَةَ الآنيةِ بقولِهِ : " آفةُ فناء المسرح وجوهرته ودرته الثمينة " ، وقد أدّت أساليب التفسير دورا مهما في الشَّرح وتقريب الفكرة وتبسيطها ونشرها، ولم ينسَ الكاتبُ الاعتمادَ الكبيرَ علَى السَّردِ لمناقشةِ فكرتِه وتقييمِها على مختلف الجوانب ومن نماذِجِه : " إنّ الآنية هي التي تؤدِّي إلى سرعة التغيُّرات في سرعة الكتابة " ، ناهيك عنْ اعتمادِه على التَّشابُه حيثُ عرض للتَّشابه بين العرضِ المسرحيّ والنّصِّ المسرحيِّ في الهدفِ الأَعلى ، وبين المسرح والشّعر.
وإلى جانب ما سبق اعتمدَ الكاتبُ على الجملِ الطَّويلةِ التي وظَّفَها خصِّيصاً للإبانةِ والتَّوضيحِ ، ولا شكَّ أنَّ سائرَ أساليب التَّفسيرِ السَّابقةِ إنَّما وُضعت لشرحِ الفكرة وتِبْيانِ خَصائص النّصِّ المسرحيِّ، بحيثُ تبدو واضحةً لا يَشوبُها غموضٌ ، أضِفْ إلى ذلك رغبة الكاتب الخفيّة في إقناع المتلقّي بأهمّية فنّ المسرح.
ولكيْ يضمنَ الكاتبُ لِنَصِّه التَّناسُقَ والاتِّساقَ ولأفكارِه التَّرتيبَ، وَظَّف جُملةً من الرَّوابطِ اللَّفظيَّةِ سواءٌ بين الفقراتِ أو بيْنَ الجمل ، ومن ذلك " واو العطف ، لكن، وبذلك ، إن... " ، كما نجدُ ربْطاً معنويّاً بين الأفكار ، حيثُ يصعُب فكّ تلاحُمِها ، ومن هذه الروابط المعنوية " لكنّ هذه الآنية، والآنية نتركها ، وبذلك تكون الديمومة.."، فالملاحظُ أنَّ هناك إحالة على فكرةٍ سابقةٍ ، وانطلاقا مِمَّا سبق نستخلص أنّ النّصَّ مُحكَمُ البناءِ ُمرَتَّبُ الأفكار شديدُ التَّرابط دقيقُ الاتِّساقِ.
ولأنَّ الكاتبَ ركَّزَ اهتمامه على التَّعريف بسماتِ النّصِّ المسرحيِّ فقد اختارَ الأسلوبَ الاستقرائِيَّ منُتقلاً من الجُزءِ إلى الكلِّ ؛ ويظهرُ ذلك في ابتدائِه برصْدِ سمات النّصِّ المسرحيِّ وتعريفِها واحدة واحدةً ، ليعرّج بعد ذلك على مسألةِ التّجريب منتهياً إلى نتيجة مفادُها أنَّ المسرحَ جُماعُ الفنونِ ، وتَكمُنُ أهمّيةُ الأسلوبِ الاستقرائِيِّ في أنَّه يعرِضُ لتفاصيلِ الشَّيءِ الموصوفِ إلى أنْ يتَّضِحَ في الأذهان ليصلَ في نهاية المطاف إلى استخلاص النَّتيجةِ بشكلٍ سبَبِيّ.
حاولَ الكاتبُ في نصّه وضْعَ اليد على أهمّ الخصائصِ التي تُميِّزُ النّصَّ المسرحيَّ مفصّلاً القولَ في كلّ سمةٍ على حدة ، وقد رامَ من خلال نصّه الانتصارَ الضّمنِيَّ لفنِّ المسرح لاَفتاً انتباهَ القارئ ليهتَمَّ به ، وقدْ سخَّرَ لذلك مجموعةً من الأساليبِ والطَّرائِقِ كتوظيفِ لغةٍ مباشرةٍ واتِّكائِه على مرجعيّاتٍ مختلفةٍ ، واستخدامِ أساليبِ التَّفسيرِ المتنوّعة أضِفْ إلى ذلكَ الاعتمادَ على الأسلوبِ الاستقرائِي ومِمَّا سبقَ تَحليلُه وتفسيرُه وعرْضه ونشْرُه نصلُ إلى إثباتِ صحَّةِ الفرضيَّةِ المطروحة آنفا وانتماءِ النّصِّ إلى المقالةِ الأدبيَّةِ التَّفسيريَّة ، وفي اعتقادنا أنَّ الكاتبَ وُفِّقَ في تسليطِ الضَّوءِ على خصائصِ النَّصِّ المسرحيِّ والتَّعريفِ بِهَا بشكلٍ يجعلها قريبة من المتلقي العربيّ.