الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

البئر المهجورة اضافة

إن الشرخ الغائر، والهوة التي لا قرار لها بين الذات والعناصر التي تؤثث الفضاء من إنسان وجماد، ترسم قسماتها وتفاصيل خيوطها قصيدة. "البئر المهجورة" مستعيرة مرة ثانية الرمزية الدينية: ابراهيم – يوسف. ويحسن أن نسجل في البداية أن النسق البنائي في القصيدة، يحدث انقلابا في التلقي حيث يصرف الذهن عما يمكن أن ينصرف اليه من هروب الذات من المكان واختيار العزلة والانطواء حين يصل الجسد بالتراب: عادته الأصلية، وينفذ به الى الأغرار للارتواء من ينابيع البداية: البئر. وبغض النظر عن الايحاءات الجنسية لفعل الاختراق هذا فإن وجود البئر في هذه الصحراء بشير خير وبركة، يقوي هذا التنافذ العميق بين النص – المقدس وبين القصيدة تنافذ تنصهر في ثناياه تفاصيل أحداث القصة الأصلية. ولنتبين حدود هذا التنافذ، نستحضر التقابل الضمني بين ابراهيم / النبي: خليل الله، وابراهيم المضحي: خليل الشاعر. وتوجه جدلية العلاقات بين العناصر البنائية في القصيدة حركتان أساسيتان: الحركة الأولى تتمثل في صورة ابراهيم قبل التضحية، والحركة الثانية صورته بعد التضحية، وما يترتب عن ذلك من تحول في الرؤى الجمعية التي تتحول من اللامبالاة والانكار الى الدهشة والانبهار. فحتى التضحية لم تخلصها من الأوهام، بل أودت بها الى وعي زائف يلوذ باللاعقل: الجنون. ولعل تفاصيل هذه القصة قمينة باستحضار مناظراتها في النص – المقدس: المسيح – ابراهيم الخليل، غير أنها لا تلبث حتى تنفصل لما توثق أواصرها بالتجربة الحياتية.
إن الحركة الأولى، تنبني على أساس صيغ الرجاء والتمني: "لو كان لي.." التي تتكرر خمس مرات متصلة في كل مرة بالتضحية والفداء:
1- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء من جديد"           ص 203
2- "لو كان لي،
لو كان أن أموت أن أعيش من جديد"        ص 204
3- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء
لو كان لي البقاء                                ص 204 – 205
وتدفعنا هذ الواقعة النصية، الى القول بأن هذ الحركة تمثل إرادة الفعل، كما أن الذات، في غمرتها تخمن وتناظر بين حجم الفعل وما يترتب عنه. وبما أن الفعل أسمى يبلغ حد نكران الذات، وممارسة فعل الفداء لتطهير الآخر، الذي لم تلق منه الذات سوى الجحود والنكران، فإن آمال التغيير يجب أن تمس الجذور وتحلل السائد من أصوله ولعل هذا هو فعل "طمر العظام" الذي أعلنت الذات في القصيدة السابقة عن عجزها على ممارسته؛ وها هي الآن، تقوم به، ولكن من خلال ما يمكن أن نعتبره معادلا موضوعيا: ابراهيم. وهذا يفسر لنا. هذا التوق العارم للهدم البناء الذي يبلغ منتهاه، فالمضحي لا يرضى بما دون النجوم كم قال شاعر العربية أبوالطيب:
أذا غامرت في ترف مروم
                                فلا تقنع بما دون النجوم
لهذا وجدناه يأمل في قلب الدورة الفصلية:
"ترى يحول الغدير سيره كأن
تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،        ص 203
وتحويل المعجزات من إطارها الغيبي الى الاطار الانساني:
ويطلع النبات في الحجر؟
.وليس هذا المطلب بأعز من طهر الذات، وتوقها الى اختراق الموت: اللحظة العبورية لقلب المدارات وتحويل الاتجاهات بين الأرض والسماء:
 
وهذا هو الفارق الأساسي بين تضحية ابراهيم بابنه استجابة لأمر الله، وبين تضحية ابراهيم بنفسه في القصيدة لمحو الظلم. وعلى هذا النحو، لا تحتفظ الذات من الآمال إلا بما يسعد الانسانية، وينشر المحبة والعدل بين الناس. ولا تنفك القصيدة تتخلص من النص – المقدس لترتمي في أحضانه مرة ثانية، متماهية مع المسيح مخلص البشرية، الذي اقترن في هذا التشكيل باستحضار الأسطورة لعلها تسعف في بناء أسس العدالة المنشودة: يوليس – أوديب… وكأن القاريء مدعو الى إعادة النظر في معايير تكوين واستواء القيم بما في ذلك مفهوم الخطيئة ومفهوم الرؤية والبصر.
أما الحركة الثانية، فانتقال خاطف من القول الى الفعل وبناء متكامل لفضاء إثبات الذات، وتأكيد حضورها المتشظي، حيث يوضع ابراهيم في واجهة التصدي للأعداء ويبلي بلاء حسنا، في الوقت الذي تتراجع فيه الجموع، ويكون استشهاده عربونا لسمو نفسه وغنى دواخله. يا لها من مفارقة مدهشة !! هذا الذي ما عرف تقديرا من قومه يهب نفسه للذوذ عنهم، وتلك مفارقة، لا ريب شائعة في الثقافة الشعرية العربية: وما تجربة الشنفرى المفرد، وعنترة المستعبد ببعيدة ولا مجهولة.

الأحد، 28 ديسمبر 2014

البنائية الأسطورية عند السياب

البنائية الأسطورية عند السياب
في قصيدة
(سربروس في بابل)
تقدم لنا التصورات البنائية بطابعها الأسطوري ابنيه تركيبية تشير الى عملية البناء الذي يتعلق بالكيفية التركيبية للنصوص الشعرية ، هذه الابنية التي تقوم بتصور الوقع الاسطوري بوظيفة ذهنية بفرز نموذج يقيمه الفعل العقلي بعد الفراغ من عمليات التشكيل المدروسة بتراتبية بنائية وهي توجد بالقوة التصورية ، وبفعل التمثيل بمعالمها حتى يصل بالمبحث الاسطوري الى الدراسة المستفيظة والحالة المتتابعة للاحتمالات التي يتسع لها مصطلح البنائية الاسطورية عند السياب ، وان التصميم الذي يتعلق بهيكلية هذه المنظومة الاسطورية باعتبارها منظومة تتعلق بالكشف الحسي والادراك الظاهر للخصائص المتمثلة في العنصر التركيبي للصورة التجريبية للاسطورة وهي تعتمد على رموز عمليات التوصيل المتشكلة بالوقائع وان تعريف البنائية الاسطورية للشعر بانها اٍحكام دقيق لعمليات التوليد الذهنية بوقائع تتمثل في الوصف لبنية القصيدة عبر الاجابة على اسئلة تقتضي التمييز بين هذه التصورات المختلفة للبنية الاسطورية وهو الاصطلاح الذي تحدده نتائج ذات طابع موضوعي يحتكم فيه التوليد والخلق الشعري الى اسس معرفية . والسياب اتخذ من هذه الوحدات البنائية للاسطورة المكون المتشكل وفق قوانين الصياغة وعنصر التمييز بين المنظومة الاسطورية وطبيعة الوقائع التي تتصل بالظاهرة الصوتية للقصيدة الى جانب رمزها المتمثل بالقدرة على اثارة هذه التصورات الذهنية من الناحية الدلالية ، وعليه فان العناصر التي تتعلق بالجانب الاتصالي الصوتي للمفردة الشعرية الذي نسميه العنصر الموضوعي لحركة الاسطرة ، وقصيدة السياب (سربروس في بابل ) هي نسج اتصالي لحلقة مفقودة داخل هذه الوقائع في العراق وان اساسياتها مرتبطة بحالة التشابه البنائية من الناحية الاسطورية بين المدلول الخارج للحدث ، والمدلول الداخلي لتركيبة البنية السياسية في العراق وهي البنية الموضوعية التي تكشفت للوهلة الاولى بالسيطرة الاستعمارية على العراق واقامة منظومات سياسية خاوية وخائبة قامت بتجريدها للاشياء وفق حجة (البنائية السياسية الجديدة) وقد تشكلت هذه البنائية السياسية على مجموعة من المنظومات السياسية ذات الدلالة الخارجية وقد مثلت هذه المنظومات احكاما اسطورية شكلت في حينها اتجاها ت تاريخية وشخصية اعطته رؤية جديدة لعالم اسطوري تكمن فيه هذه الصورة البشعة المحكومة بالعلاقات المطلقة احيانا والمباشرة من الناحية الفوضوية في بناء هذه المنظومات. والبنية الاسطورية عند السياب خاضت غمار هذه الصراعات متصلة بتركيب النص الشعري ونسجه اللغوي – والصوتي الخفي الذي يظهر في اسطورة ( سربروس في بابل) وهو الكلب الذي يحرس ( مملكة الموت) في الاساطير اليونانية القديمة حيث يقوم عرش (برسفون) الهة الربيع بعد ان اختطفها اله الموت وقد صور دانتي (في الكوميديا الالهية ) حارسا ومعذبا للارواح الخاطئة( ).
والسياب يميز بين البنية من ناحية الاسلوب الاسطوري وهي تتصل بتركيبة النص والبنية المتعلقة بالنسج اللغوي الاسطوري ، وفي الحالة الثانية يتشكل النص الشعري عند السياب حيث نرى البنية تتصل بالحكاية ووظيفة الزمن والشخصيات وهيكل الاحداث الذي يشكل الخلية اللغوية بمستوياتها الصوتية وامكانياتها البنائية في تاكيد مهمة النص الشعري واهتمامه بفروع المعرفة الصوتية المتخفية والمضمرة داخل النص الشعري وهي تبحث عن الاسس النظرية لكي تجعل البحث النظري داخل هذه النصوص هي من الاهتمامات المتعمقة في اشعار القاريء الجاد بان هناك معطيات عديدة تقوم بعملية التحليل لهذا الاشعار الصوتي الخفي وهو يبلور نقطة عميقة الجذور في خلق هذا الكشف الدقيق للخصائص الاصيلة في نظم الايقاع الصوتي الخفي، وقد يظهر هذا النظم عند السياب وفق تراكيب عديدة من الاختلافات ذات الدلالات العميقة وهي القادرة بالمقابل على اضاءة حقائق قيمة ترتبط بالبنية الاسطورية وعقول تلك المجاميع البشرية التي تعين هذا الفهم من التطورات التي تحدث في هذه التشكيلات ذات النظام الايقاعي الظاهر وفق اسس جذرية تتعلق بالدور التكويني لاساسيات التوازن الاسطوري من الناحية اللغوية الذي يقوم به التركيب الشعري وفق الصيغة الكيفية من منظومة اللغة وتفاصيلها الصوتية الخفية التي تبلغ عنصر المبحث الشعري الذي يركز على المنظومة الايقاعية التي تتناسب والمجال الطبيعي لحركة الاسطورة في (سربروس في بابل) وهنا يتشكل الفضاء الاسطوري عند السياب بواسطة مركبات متعددة المستويات يطغي عليها الفعل الدلالي داخل اختلافية للبنية وفق قيمة دلالية للمعنى بانكماش مجال التعدد للمعاني وازدياد الاكتمال في الفائدة التي تجعل ثراء المضمون من الناحية الفنية هو الجانب الامكاني في الاستبعاد للمعاني المترهلة ،ونحن مع راي الجرجاني في المعنى الذي (ينقسم الى قسمين)(قسم انت ترى احد الشاعرين فيه قد اتى بالمعنى غفلا ساذجا ، وترى الاخر قد اخرجه في صورة تروق وتعجب)( ) المعنى الذي ياتي غفلا وفي الصورة الاخرى الذي ياتي مصنوعا ويكون ذلك اما لانه متاخرا قصر عن متقدم واما لانه هدى متاخرا لشيء لم يهتد اليه المتقدم. مثال ذلك:
قال البحتري:
ليل يصادفني ومرهفة الحشا
ضدين اسهره لها وتنامه


وقول المتنبي :
وقيدت نفسي في ذراك محبة
ومن وجد الاحسان قيدا تقيدا
وقول المتنبي:
وماثناك كلام الناس عن كرم
ومن يسد طريق العارض الهطل
وقول الكندي:
عزُّوا وعزَّ بعزهم من جاوروا
فهم الذرى وجماجم الهامات
في هذه الابيات تتشكل الصور بعملية اختلافية ، وان البنائية الشعرية التي تقول (ان المعنى في هذا البيت هو المعنى في ذلك ولاخلاف في معنى عائد اليك في البيت الثاني في هيأته وصفته، وان الحكم في البيتين كحكم الاسمين في منظومة اللغة مثل (سربروس في بابل) حسب ماتقوله الاسطورة اليونانية ، ولكن السياب جمع (سربروس) وهي كلمة يونانية مع كلمة تخص حضارة بابل وسربروس كلب يحرس مملكة الموت في الاساطير اليونانية – ولاعلاقة بين سربروس وبابل لان الكلمة اليونانية لايجمعها جنس واحد مع بابل لان بينهما اختلاف كبير في تفاصيل المعنى ولكن هناك تطابق بين سربروس ووجوده الان في العراق ، والسياب كان يميز بين هذه الاساطير ومسمياتها لانها تؤدي وظيفة تكاد تكون مطلقة من الناحية الفنية وهي تتمازج وتتداخل وتنسجم مع خواصها الاسطورية برغم التصوير المتناقض في نظر السياب الذي انتج هذا التناقض فهو السبيل الى حالة الصيرورة الوجودية واستمرار الحياة برغم الاحتلال ورغم مايحدث من انتهاكات مريبة وهذا يذكرنا بقصيدة السياب (وصيه من محتضر) حين يقول:
اين العراق؟ واين شمس ضحاه تحملها سفينة
خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء
هي جنة فحذار من افعى تدب على ثراها .
هذا يعني ان الرمز الاسطوري عند السياب كان رمزا ستراتيجيا في بابل ولو كان الناقد المبدع عبالجبار عباس حيا لغير رايه في مفهوم الاسطورة عند السياب لجعلها مفهوما ستراتيجيا وليس كناية بلاغية وليس فرصة للتلذذ باكتشاف الحقائق او الاختفاء وراء هذه الرموز ، وان الوظيفة الاسطورية لاتنتهي بمجرد الانكشاف للقاريء لتشكيلة هذه الرموز وان سربروس هو ليس رمزا للطاغية قاسم فقط انما هو رمز لاكبر احتلال عسكري (اميركي بريطاني للعراق) في العصر الحديث وفي هذا السياق اتذكر قال لي الناقد الانطباعي المبدع عبدالجبار عباس ( اني كتبت كتاب السياب بشكل سريع) ثم يستدرك الناقد الراحل في الصفحة (196) من كتابه السياب قائلا ( ان السياب عمد الى الاكثار من الاساطير لحاجة تنكرية) ويقول ( ان الاساطير في شعره ليست حلية جمالية تضاف الى قصائده ويمكن الاستغناء عنها ، بل امست ضرورة فنية واسلوبا راسخا يبني به قصيدته حتى لو لم يكن ثمة حرج من مضمون القصيدة بدليل انه عمد الى هذه الاساطير في هجائه للشيوعيين في قصيدة ( رؤيا 1956) وهذا اعتراف من الناقد المبدع عبالجبار عباس بان الاساطير تؤدي وظيفة تنكرية قد يصح في قصيدة ( سربروس في بابل )( ) وهو رمز اسطوري عبر عن خيبة امل سياسية لم تحقق الحلم المنشود في العراق .
يقول السياب :
ليعوِ سربروس في ا لدروب
في بابل الحزينة المهدمة
ويملأ الفضاء زمزمة ،
يمزق الصغار بالنيوب ، يقضم العظام
ويشرب القلوب
عيناه نيزكان في الظلام
وشدقه الرهيب موجتان من مُدى
تخبيء الردى .
و العلاقة التي تربط الاسطورة باللغة تكون من خلال ابراز الصورة ومظاهر التكوين في التشكيلة المرئية للصورة الشعرية وهي تقتضي رسالة لغوية تحدث داخل مجموعة من الاشياء وهي تنتقل الى السياق الاسطوري في اللغة ، لانها تتخلل اللحظة الحرجة في التصور داخل مكون لغوي اسطوري يتمتع بالمعنى الدلالي للاسطورة وهو مقتضى جديد لانطولوجيا الاسطورة عند السياب حيث تعود هذه الجذور الى مفهوم الحاضر الوجودي في فلسفة الاسطورة وفي اللحظة الراهنة عند السياب وهو يكتب النص الشعري لانه أقتضاء يتعلق ببيان هذا العنصر الوجودي للاسطورة وملامحه الحاضرة في مسار التذكير الواقعي في (سربروس في بابل) وهو ايضا الزامي في تبيان الموجود في الحاضر ، والامر يتعلق في مسار الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الاساطير اليونانية باعتباره لحظة خطابية راهنة تتعلق بالحدث التاريخي للاسطورة لانه الكشف عن القيمة الاسطورية في ثنايا وجودها الذي تميز بالتحديث في اطارها الفلسفي وهو تساؤل عن اللحظة ودلالتها اللغوية ومدى الامكانية التي توفرها الاسطورة في تدشين التحديث كمسار يتمحور داخل منظومة التاريخ التي ارست الاشكالية التقنية كما تفسرها النصوص الاسطوريه ، وهي قيمة تقع في مركزية حركة التاريخ لانها اثبتت خصوصية هذا التحديث الاسطوري داخل نصوص السياب الشعرية ، والسياب اسس هذا التوازن الاسطوري في فلسفة التحديث وعمد على نقله خطابيا داخل شروط امكانيه ومعرفية وهي تتحرك بملاحظة جد تحديثية وفق مقتضيات الحالة الراهنة ، فالكلب (سربروس ) هو نفس الكلب الذي يجوب العراق من شماله الى جنوبه حاليا وهو نفس العراق المهدم وسربروس الذي يمزق اطفاله( بالنيوب ويقضم العظام) وينشر الخراب والمكان هو العراق ولبنان وفلسطين الحقول التجريبية فيما يتعلق بتحليل النص الشعري بانطولوجيا الحاضر، ويرى السياب ان التشخيص الدقيق لفلسفة الاختيار الاسطوري في اللحظة الراهنة هو الشكل الممتد داخل اسس منهجية تندرج داخل النص الشعري ،هذا المنهج اللاسطوري هو الذي شكل حفريات المعرفة منذ البداية لدى السياب وهو التجسيد الحقيقي لما يحدث باختيار يمتد عبر التاريخ . والسياب حول هذا الرصد للوحدات الاسطورية بتجذير يتعلق بالمقولات الواعية التي تولدت بلغة اتصالية عالية الوقع بعد ان قوض مفهوم الوظيفة التنكرية للاسطورة التي اشتملت الحس التاريخي الذي يلوذ به السياب كما يتهمه البعض من النقاد هنا وهناك في كتب النقد ، فالسياب لابس التاريخ بالاسطورة وبشكل تحديثي باعتبارها تحول في الانساق وتباين في الانشطار الذي اصبح يطبع مسار النص الشعري للسياب .
اشداقه الرهيبة الثلاثة احتراق
يؤج في العراق-
ليعِو سربروس في الدروب
وينبش التراب عن الهنا الدفين
تموزنا الطعين،
ياكله : يمص عينيه الى القرار ،
في هذه الابيات يشكل المنظور اللغوي بانساق فلسفة الاسطورة واقعا جدليا يستطلع اشكالية التاريخ ، اننا نستطيع ان نفكك هذا التشكيل في اللغة الاسطورية وفق انموذج بنائي يعكس دعامة الوجود الصوتي الخفي للنص وفق مركزية الماضي والحاضر ووفق رؤية ارسطية تفترض التاسيس اللغوي باقتراب يصور تدرج هذه العمليات وفق زمنية لغوية تتقدمها المصدرية السيكولوجية وفق منظومة تعتمد الثنائية ( السيكولوجية) الذهنية في استعمال يجذر التعيين بنظرية اللغة وذهنية القدرة التطبيقية للاسطورة واعادة تشكيل الوعي باستدعاء حركية التاويل لنمطية التفكيك الارسطي لهذه الوحدات التي تشكلت بنواة النظرية البنائية في اللغة ، فالسياب افصح عن الابنية النصية باحتياطي وفره ببناء سابق في حلقة القص الاسطوري ورهافة في النسج الشعري حيث طور هذه التكوينية الاسطورية بمشاهدة وسماع (العواء لسربروس) في الدروب وفق منطق اجرائي انتجه السياق الفلسفي للنص وفق انتقائية تاملية ماخوذة من تجربة اليباب لاليوت وعملية النبش في التراب والبحث الدقيق في ثنايا التركيب للاسطورة في (تموزنا الطعين) والسياب واصل تتبع الواقعة المحسوسة سسيولوجيا انه الفعل العملي لتجميع الحدود الفلسفية للاسطورة داخل بوتقة التفكيك التعاقبي الذي شكله الصوت في (ياكله يمص عينيه الى القرار) وهذا تحول في المنظور الرؤيوي عند السياب في فلسفة اللغة الاسطورية من وجهة النظر المركزية للابنية النصية وهي تقوم بتاهيل الوعي الاسطوري من وجهة نظر دالة وشروح تمرر هذا الارث الفلسفي للاسطورة عند السياب .
يقصم صلبه القوي، يحطم الجراء
بين يديه ، ينثر الورود والشقيق .
اواه لو يُفيق
الهنا الفتيُ، لويبرعم الحقول ،
لو ينثر البيادر النضارفي السهول،
لو ينتضي الحسام ، لويفجر الرعود والبروق والمطر
ويطلق السيول من يديه. اه لو يؤوب !
ان المباشرة بتمثيل العودة لحقيقة بعث الحياة من جديد لانها العنصر الوسيط الذي يربط بين لغة التمثيل هذه من الناحية (السيميولوجية) لانها تفعل فعل التجاوز لحدود اللغة العادية اي لغة الاداة الى لغة الاسطورة الفلسفية وهذا موضوع يعكس المبحث (السيميولوجي) في وحداته الدالة الكبرى لان المنحى اللغوي الذي ينتهجه السياب في هذه الاشكالية هو منحى الرسائل المشفرة التي تتواصل مع العام الاسطوري لفلسفة اللغة وفق دراسة بنائية تتموضع داخل الوظيفة الشعرية لانها الاهمية الدقيقة في اقتضاء الضرورة لان السياب يقوم بايقاف الانماط التقليدية للغة ذلك بانتقاله الى العمق لينشر البيادر النضار في السهول ، فهو يربط التفاوت الاختلافي في اللغة وفق سيميولوجيا تاسيسية لرموز اسطورية يستخدمها السياب كرسائل مشفرة يحاول ان يتواصل مع الرمزية التقليدية للغة وبالمحاور اللغوية الاوسع في ظل سيميولوجية التواصل (الانثروبولوجي للغة) (لو ينتضي الحسام ، لويفجر الرعود والبروق والمطر ) ويطلق السيول من يديه . اه لو يؤوب !) وهذه حالة التصنيف للابنية اللغوية وفق تلك المعايير المشفرة عند السياب من الناحية الاسطورية . والسياب اعتمد علاقة التجاور الحسي في اللغة، فالاشارة عنده ترتبط (بالدال والمدلول) وهي تتجاوز المنحى الواقعي الى مشهد الواقع الاسطوري ، وهناك علاقة ايقونية تتمركز في الدال والمدلول فهي ترتبط بالمشاركات الشكلية وتظهر اثناء القراءة او في التصوير اللغوي للمشهد في حقيقته الاسطورية ( الهنا الفتي لو يبرعم الحقول). لقد اتخذ السياب في بنائه الاسطوري دلالة تحديثية قائمة بين ماحدث في العراق في المرحلة الماضية اي في العام 1959 وبين ما يحدث الان من اشكاليات وتجاوز في ظل الاحتلال العسكري الاميركي البريطاني للعراق ، ففعل التشابه قائم بين المرحلتين التاريخيتين قبل العام 1958 وامتداداتهما فيما بعد وما حصل من نزاعات سياسية ، هذه التركيبة او المعادلة الرمزية فهي تؤكد الدال والمدلول في الرابطة الفعلية بين الداخل والخارج والحالة الرمزية التي لم تنفصل لانها تمثل مرجعيات رمزية واسطورية مختلفة ، واننا نلاحظ هذا التنوع التدريجي القائم على الانتقال داخل الحدث التاريخي من مرتبة تحديثية في النص الى مرتبة تحديثية اخرى وهي تتشكل من الناحية اللغوية على اساس تقليدي في عملية تفصيل الحدث كما قلنا في بداية هذا البحث ، الا ان الوظيفة الاسطورية هي التي تخضع هذه المستويات من البنية اللغوية الى الحالة الضروريه في تكوين الصيرورة ، وهو مظهر اشاري مشفر عند السياب لانه يكتسب اهمية (سيميولوجية) من ناحية انتاج الرمز الاشاري ليتفاعل مع العناصر الايقونية التي تتمثل في الدوائر اللغوية المشفرة مع الاخذ بعين الاعتبار الرموز اللغوية الاداتية التي تنبني بالتقابل مع هذه المفاصل الرمزية المحددة بالسيميولوجيا الثقافية وهي تضفي على النص عدة من الدلالات والاعتبارات السسيولوجية العامة .
يقول السياب:
لحافنا التراب ، فوقه من القمر
دم ، ومن نهود نسوة العراق طين .
ونحن اذ نبض من مغاور السنين
نرى العراق ، يسال الصغار في قراره :
(ما القمح ؟ ماالثمر ؟ )
ماالماء ؟ ماالمهود ؟ ماالاله ؟ ماالبشر ؟
فالتقسيم الذي تمحور في العلاقة السيميولوجية الخاصة بين (سربروس الاميركي في العراق) وهي الاشارة التي تتضمن العلاقة بين الدال والمدلول وفق منظومة (داخلية وخارجية) وهي ترتبط باشارات تتكون من سياقات متجاورة ومعروفة ، اما التشابه الحسي (لسيميولوجيا اللغة) التي تركزت على التجاور الواقعي وفق انموذج لغوي اسطوري واضح وهو يشير الى العلاقة الايقونية بين الدال والمدلول بالمشاركة النوعية التي تظهر للمتلقي لهذه الابيات الشعرية التحديثية عند السياب لتضع التشابه وفق النسبة والتناسب في اطار مراحل تاريخية تتجلى فيها المشاهد (السسيولوجية الحسية) وتلتقي فيها الصيغ المتناظرة بقساوة تلك الابعاد التاريخية ، والتشابه الحاصل في المحصلات في العراق ماقبل العام 1958 وما بعدها وبين احتلال العراق في العام 2003 من قبل الامبراطورية العسكرية الاميركية ، فالذي حصل هو صدق حدس السياب في التحديث للنص الشعري وماشكله من رموز اسطورية في الكلب (سربروس) هذا الكلب الاسطوري الذي ظهر في مرحلتين تاريخيتين من اخطر المراحل التأرخية التي حدثت في العراق الذي شكل التنوع في الدلالة التحديثية فاصبح معناه الرمزي يقع طرديا في سلم التاريخ وفي المقدمة في تصوير فعل هذا التجاور وقوته اللغوية الاسطورية وتراثه وعمقه الرمزي ، والسياب يهدف من هذا التحديث السسيولوجي للنص الشعري عبر البحث السيميولوجي ووفق وظيفة بنائية في تمثيل قائمة من الاسئلة ، ولذلك ينبغي ان نحدد طريقة الانبثاق في تفصيل معيار الحدث الشعري وهو يتركب من الاشياء ليتصل بتلك المحاور السيميولوجية التي تشير الى الضرورات الدالة في ( ما القمح؟ ما الثمر ؟ ما الماء ؟ مالمهود ؟ ما الاله ؟ ما البشر ؟ ) هذه الضرورات من الاسئلة تتعرض لجوانب سيكولوجية وسسيولوجية واقتصادية ودينية اضافة الى الدلالة الرمزية التكوينية وهذا يرتبط بتشكيلة الانبثاق التي تتعلق بمنهجية التحديث للنص الشعري عند السياب ، فكـان جواب السياب:
رفيقة الزهور والمياه والطيوب ،
عشتار ربة الشمال والجنوب ،
تسير في السهول والوهاد
تسير في الدروب
تلقط منها لحن تموزاذا انتثر ،
تلمه في سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل – الجحيم
يحبُ . في الدروب خلفها ويركض
ان الوصول الى البنية السيميولوجية يؤكدها الاختيار التوثيقي للدلالة في انتظام يستخلصه كشف القواعد العملية للغة الاسطورية وفق المستوى التوقيتي الذي الزمه التناول لزمنية عشتار الدالة من الناحية الاسطورية , وهي زمنية متغيرة وفق حتميات واختيارات تتوضح انظمتها بالبحث على مستوى التاريخ للوصول الى حالة ايقاعية تؤكد سر المتغيرات في الوعي السيميولوجي للاسطورة ،وهنا يتم اخضاع العنصر السياقي الى مفهوم الدوائر الدلالية وفق استيعاب ينبثق بدلالة اختلافية للاسطوره(عشتار ربة الشمال والجنوب ) و(تلقط منها لحم تموز اذا انتثر ،) وهنا تاتي وظيفة النظم الدلالي المتعلقة بالمنهجية السيميولوجية طبقا للحالة البنائية ، والسياب يتمثل تصوره للاشياء من خلال تواصل حلقة الانبثاق للاتصال بالموضوع السيميولوجي للاسطورة وتشير دلالة الاشياء الى الحالة الضرورية التي يتركب فيها مستوى الوعي للاسطورة والتضامن الذي تقتضيه الوحدات المتبادلة سواء على المستوى اللغوي للاسطورة او مستوى الانساق التوفيقية داخل البنية اللغوية ، فالاختيار يأتي مرة اخرى في نظر السياب بحركة الفعل الانبثاقي حيث تنبعث عشتار بحكم التوفيقية الاسطورية وبرغم الخضوع السياقي وتدرجه واحتمالاته ، فالمنظومة الاسطورية تتناسب بشكل عكسي مع حجم الواقعة والوقيعة التي احدثها (سربروس في عشتار ) لكن الادلة اللغوية تشير الى عملية التوازن عند السياب وهي عودة البنية الاسطورية في التدرج والتقنية في الانبعاث . هذا التدرّج هو الذي يحدد مفهوم التغاير الذي يحدث في سيميولوجية اللغة بصفته تطابقا يفضي الى حاجة واستجابات لوسائط تتموضع في الاتساق والمكوث والاجابة على كل الاحتمالات التي يحدثها ( سربروس في بابل وفي عشتار حصرا)
يمزق النعال في اقدامها يعضعض ،
سيقانها اللدان ، ينهش اليدين او يمزق الرداء.
يلوث الوشاح بالدم القديم
يمزج الدم الجديد بالعواء .
ليعوِ سربروس في الدروب
لينهش الالهة الحزينة ، الالهة المروعه ،
فان من دمائها ستخضب الحبوب
سينبت الاله ، فالشرائح الموزعة
تجمعت ؟ تململت . سيولد الضياء
من رحم يترُُّ بالدماء .
لقد افرغ السياب اللغة من التليّف والخضوع الى طائلة الذات الاسطورية وعممها بالواقعة وبحركة تصويرية مثلت أداة التبادل في هذه الوقائع من صيغ اللفظ السيميولوجي الذي افصح عن معناه بطريقة منفتحة على الحس والربط الجدلي بين هذا التموضع داخل الحس والنسج داخل الجملة الشعرية بافتراض مبحث سيميولوجي يخضع العلامة الى الدلالة كما في (لينهش الالهة الحزينة ، الالهة المروعة ، فان من دمها ستخضب الحبوب) فالمبحث الدلالي اكتسب الجدية في الاتصال بالاخر حيث استند الى المطابقة في اللغة والتوثيق الاسطوريين وفق مقاومة تتشكل بالواقعة لعشتار والعودة الى الجذور الفكرية للاسطورة الرافدينية باعتماد المغزى السسيولوجي، لان هذا الافتراض يذكرنا بالمغزى الفكري وفق دلالة لغوية تشكل المحتوى لهذا الفكر الرافديني ، والسياب موضع المستوى الدلالي حين موضع اللغة وطوع الاسطورة تحت هامش التاويل باستهداف يمتلك انعكاسية مرتبطة بالخطاب الشعري المتين الذي وضع ارضية للدلالة تحت راية اللغة الاسطورية بانجاز تخاطبي ذي اهمية ( انثروبولوجية) مكن السياب من خلال التعبير الاسطوري واللغة المؤسطرة العالية الخصوبة ان يؤكد هذا الانفتاح داخل رؤية جدلية وجودية تعني بحركة الاتصال والتواصل مع جدلية التاريخ من خلال الكشف اللغوي للاسطورة وعلاقتها التحديثية بالنص الشعري صاحب الجاذبية العلائقية في التحديث .

تحليل نص شعري قصيدة: سربروس في بابل [بدر شاكر السياب]

حليل نص شعري قصيدة: سربروس في بابل [بدر شاكر السياب]
تأطير النص: دلالة العنوان:
*- الإعراب: العنوان : جملة اسمية مؤتلفة من مبتدأ (سربروس) وخبر مقدر ب" استقر" من شبه الجملة "في بابل"
*- الدلالة: 1- سربروس: هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية
2- بابل: مدينة ببلاد الرافدين/ العراق، وهي رمز لحضارة ضاربة في عمق التاريخ البشري
3- سؤال: ما الجامع بين سربروس وبابل؟ لقد انتقى الشاعر السياب هذه العنوان بعناية، وإذا نحن شئنا الدقة أكثر نقول: سربروس رمز أسطوري يوناني متوحش سفاك للدم؛ أي زمر يجسد الغرب الأوربي. وبابل مدينة شرقية " متحضرة" هادئة. فما الذي قد يحدث إدا حل سفاك بأرض تعيش الخصب والرخاء؛ إنه الدمار والخراب، ولربما في هذا العنوان إشارة إلى الخراب الذي شهده العالم العربي ما بين اتفاقية سايكس - بيكو المشؤومة، والنكبة الفلسطينية، إنه دمار بكل المقاييس، خصوصا بعد زرع الكيان الصهيوني في خاصرة الجسم العربي المترهل. هذا الكيان الدموي يشبه في سلوكه وعدوانيته سربروس الإغريقي الذي دمر الأخضر واليابس.
نعم إن لحدثي اتفاقية سايكس- بيكو والنكبة دورا حاسما في انفجار ثورة عارمة على الجمود الذي أصاب الأمة العربية فكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأدبيا، والشاعر العربي باعتباره ابن بيئته ولسان وطنه، كان ملزما هو كذلك بالثورة، وقد توفق في ذلك حينما ابتدع شكلا تعبيريا جديدا أحله محل النموذج الجامد للقصيدة العربية التي ازدادت جمودا وتحجرا بقيود الخليل وسفاهة الأغراض المطروقة.
وتزعم حركة الانشقاق الشعري كوكبة من شعراء الرافدين(السياب/البياتي/ الملائكة/الحيدري) والشام (أدونيس/ الخال/ خليل حاوي/قباني/ طوقان/ توفيق زياد)والكنانة (عبد الصبور/ عبد المعطي حجازي ) انضم إليهم المغاربة(بنيس/ السرغيني/ ع.الله راجع/ المجاطي) في وقت متأخر بعض الشيء .
والحقيقة أن التمرد على العمود الجامد كان مبررا كما أسلفنا، بل إنه كان ضرورة أدبية يقتضيها العصر، إذ لا يعقل أن يظل الشاعر متسولا على أعتاب أسياده، أو حالما هاربا من قساوة الواقع باحثا عن الهدوء في الطبيعة ...فالشاعر أضحى مطالبا أكثر من أي وقت مضى، بإعلان موقف مشرف، موقف رافض للقهر والذلة ومتحديا لكل الصعاب.
والقصيدة التي بين أيدينا (سربروس في بابل) خير ما يمكن أن يجسد على التجديد ومعه القدرة على الصمود والتحدي، فأين يكمن هذا التجديد؟ وما الوسائل التعبيرية المعتمدة فيها ؟ وإلى أي حد مثلت قصيدة الرؤيا ؟
بعودتنا إلى القصيدة ، ووقوفنا عند معانيها يمكن القول: يري السياب أن واقع مدينته " بابل" واقع ملؤه الدمار والخراب والبؤس والحزن ؛ واقع تسبب فيه ذاك الغريب القادم من الغرب "سربروس" الذي وسع البلاد خرابا وسفكا للدماء ،بل إن سربروس؛ هذا؛ رمز الشر والفناء؛ يتمادى إلى ما هو أخفى؛ فيبطش بعشتار ؛ رمز الخصب؛ وينزع "تموز " من بين يديها ومن تحت الثرى، ليتفنن في تجديد موته ونهش عظامه، إلا أن تموز الذي هو؛ رمز العطاء والحياة؛ وإلـه الخصب والخلود، لا بد أن يحيى من جديد، وهذا ما يتمناه الشاعر فعودته من جديد ستعطي قوة للحياة؛ قوة يمكن أن تقاوم الأعداء .
لقد خلق الشعار في هذه القصيدة صراعا ملحميا بين قوى الخير والحياة، وقوى الشر والدمار، وتوسل لذات الغاية بلغة بسيطة في معانيها عميقة في دلالاتها، ف: سربروس؛ وما خلفه من مشاهد الفنار والخراب يجسد حقل الدمار والرعب، بينما شكل اتحاد قوتي" عشتار " و"تموز" حقلا للتحدي والحياة بعد الفناء، وهذه هي الغاية التي يرومها الشاعر ويتمناها.. الصمود يوصل إلى النصر.
إلا أن هذه الأماني والغايات لم يكن للشكل القديم أن يستوعبها؛ لذلك عمد الشاعر ؛ لتحقيق دفقته الشعورية إلى؛ تكسير بحور الخليل ابن أحمد، واستبدال البيت الشعري ذي الشطرين المتناظرين والتفعيلات المحددة ، إلى أسطر شعرية متحررة من قيود الشكل وعدد التفعيلات التي تحدد بحسب رغبة الشاعر ودفقته الشعورية، دفقة قد يسعها سطر [س:30- أكانت الحقول تزهر؟]، وقد تمتد إلى الجملة الشعرية عند قصور السطر عن استيعابها ومثال ذلك؛ قوله[[28-29](أكانت الحياه - أحبَّ أن تُعاش؛ والصغار آمنين؟)]
ففي السطر(30) انتهى المعنى وكمل؛ أما في السطر (2icon_wink.gif لم يمتلئ المعنى، مما استدعى سطرا آخر (29) على شكل تساؤل نظرا لهيجان نفس الشاعر الذي ضخم الدفقة الشعورية فاستدعت أكثر من سطر ؛ ليخرج لواعج الكلام الدفين.
كما أن هناك؛ في بعض الأحيان؛ أسطرا شعرية قصيرة ؛ نحوَ قول الشاعر: ( تموزنا الطعين.)إنها؛ وغيرها في هذه القصيدة؛ جملٌ استدعى وجودها نفسا شعريا قصيرا فجاءت قصيرة،وتهيمن على النص ظواهر إيقاعية؛ كالتوازي: الوارد في الأسطر:(30/31/32) وهو تواز عمودي تام في السطرين الأولين مع تواز نسبي بينهما وبين السطر الثالث .
أما التكرار فحاضر بقوة؛ ومن أمثلته تكرار بعض الأسطر على شكل لازمة (ليعوِ سربروس في الدروب) وتكرار بعض الكلمات، والأساليب (أكانت...؟) مما أضفى على القصيدة جمالية موسيقية؛ زادها الإدغام الكثيف زخما دالا على حالة التوتر الذي أفرزها مشهد الدمار.
وبما أن القصيدة من شعر تجديد الرؤيا؛ فإن الشاعر السياب بناها على تفعيلة واحدة [//0//0] جاءت تامة تارة وناقصة[/0//0]تارة أخرى كما عمد إلى تنويع القوافي،فجاءت متتابعة تارة (وشدقه الرهيب موجتان من مدى/ تخبئ الردى)، وطورا؛ مرسلة (ليعو سربروس في الدروب/ في بابل الحزينة المهدمهْ).
من هنا يتبين لنا التمثيل الواضح للحداثة على مستوى الإيقاع .فهل سينسحب ذلك أيضا على مستوى الصورة الشعرية؟
مما لا شك فيه أن الصورة الشعرية عند شعراء تجديد الرؤيا، اتسمت بالكثافة والغموض وتوظيف الأسطورة والزمر بقوة؛ إلا أن ذلك لا يعني قصورهم عن إبداع صور استعارية في منتهى الجودة.
فقد استهل الشاعر قصيدته باستعارة :" ليعوِ سربروس في الدروب" ف: سربروس هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية ، ومن المعلوم أن الصوت الذي يصدر عن الكلب هو النباح في حين أن الصوت الذي يصدر عن الذئب هو العواء لذا قد يبدو أن استعارة العواء للكلب ( الأسطورة). إن استعارة العواء للكلب أمر أبلغ وأشد تعبيرا عن أسطورة سربروس التي توحي بجو مرعب؛ لأن سربروس ليس كلبا عاديا، بل بثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه باستمرار، وينفث السم من أحشائه وله ذيل تنين ، وتكسو ظهره وشعر رأسه ثعابين مرعبة، ومن ثم يكون الهدف من استعمال هذه الاستعارة المبالغة والتأكيد على قوة صراخ سربروس .
إن قوة سربروس الخارقة ولدت معاناة للأهالي؛ معاناة تتجلى أكثر في الاستعارة الواردة في البيت الثاني حيث يشبه الشاعر بابل، بالمرأة الحزينة المهدمة ؛ لأنه كما جرت العادة؛ فحزن المرأة ، باعتبارها كائنا هشا وحساما يثير شفقة الآخرين وتعاطفهم.
إن سربروس ليست مصدر معاناة بابل وحدها بل إنها مصدر معاناة لسكانها أيضا. يدل على ذلك الاستعارات الواردة في الأبيات (3)،(4)، و(5) . ذلك أن سربروس ذئب لا يكتفي بالعواء فقط، بل يتعداه إلى فعل الإبادة والقتل، فقوة سربروس وشدته باعتباره رمزا للشقاء والموت جعلت الشاعر يؤسس عالما من الاستعارات التي تبين درجة المعاناة والحزن التي تعيشها بابل، فإذا كان الذئب يفترس صيده بعد أن يقضي عليه، فإن سربروس يمارس فعل الإبادة والافتراس معا في آن واحد.وقد استعار الشاعر الأنياب للدلالة على ذلك الفعل البشع الذي يمارسه الموت على أكثر المخلوقات البشرية ضعفا (الصغار). تبين هذه الاستعارة كيف تؤسس الاستعارة للنص الشعري ، ذلك أن استعارة ( سربروس ذئب) تستلزم استعارة ( الصغار /الناس فرائس).
بعد أن يصف الشاعر جو الحزن الموت الذي يخيم على موطنه ( بابل)، ينتقل إلى مستوى جديد يصور فيه سربروس باعتباره مصدرا ومنبعا لكل علامات الشقاء ويبدو ذلك جليا من خلال استعارة : عيناه نيزكان في الظلام ، حيث يشبه الشاعر عينا سربروس بالنيزك المضيء في الظلام ، وهو ما يزيد في الإلحاح على ذلك الجو الكئيب الذي يسببه انتشار الموت والشقاء في بابل.
إن الجو الرهيب الذي ولده سربروس، أوحى للشاعر السياب بتوظيف جمل فعليه قصيرة أفعالها – في الغالب – مضارعة من أجل إضفاء نوع من الدينامية على المشهد، دينامية تعلو تارة وتحبو أخرى مؤسسة منحنيات نفسية شديدة الارتداد.
أما الأساليب فمعظمها خبرية لأنها تصف مشاهد الدمار والرعب الذي خلّفه سربروس، إلا أن التوسل بالجمل الإنشائية كان مثاليا ومناسبا لمقامه خصوصا تلك التساؤلات الوجودية الكبيرة التي استلزمتها حالة المدينة بعد زيارة سربروس .
ومسك الختام ما أورده السياب في البدء وفي المنتهى؛ " ليعو سربروس": أمر بمعنى التحدي؛ تحدي الدمار والفناء- سيولد الضياء من رحم ينز بالدماء: تفاؤل بالمستقبل، وبالقدرة على الانبعاث من تحت الدمار.

تحليل مترابط لسربروس في بابل السياب

تبقى الأوضاع السياسية المتأزمة إبان نكبة فلسطين وما تركت في نفس العربي عاملا أساسيا وراء كل تجديد لازم القصيدة العربية،فتمرد العربي عن ما هو مألوف وتحدى الخطوط الحمراء المقدسة فخرق النظام الخليلي وربط تجربته الذاتية بالتجربة الانسانية فرسم واقعا معيشا عبر ما يسمى بالرمز والاسطورة والايحاء،فربط الواقع باستشراف المستقبل وقد ساهم في ترسيخ هذه التجربة شعراء عدة من بينهم أدونيس والبياتي ويوسف الخال وبدر شاكر السياب الذي من بين ما أثمر إبداعه قصيدة سربروس في بابل. فما مضمون القصيدة ؟وما الوسائل التعبيرية المعتمدة فيها ؟وما الرؤى التي تحملها ؟وهل مثلت قصيدة الرؤيا على أكمل وجه؟.
يرى الشاعر الواقع من خلال الالتفاتته إلى كل من الدماروالهدم إلتفاتة صادفت عالما ملءه الوجوه الحزينة التي امتزجت براءتها بذعر شكل سربروس الذي يملأ المدى بنشر الخراب وسفك الدماء ، فيتمادى سربروس رمز الشر والفناء إلى ماهو تحت التراب لينزع تموز من تحته فيجدد موته وينهش عظامه .تموز رمز العطاء والحياة،إلـه الخصب والخلود الذي يتمنى الشاعر لو يعود من جديد لتملأ قوته الحياة ويرفع حسامه في وجه أعدائها، إلا أن التمني لم يفد الشاعر فإن سؤل عن الحياة في العراق وجدها دم وحروب . العراق وجد نفوسا لعينة ملؤها الخداع والضغينة.لتقبل إلهة الحصاد عشتار مالكة الحياة سبب الخصب والخلود جاءت لتجمع لحم تموز المنتشر على الارض،إلا أن سربروس يعيقها ويقتلها،وبدمها تخصب الارض وتولد الحياة ،يجئ تموز فيحيي الفناء من جديد.كل هذا دليل على أمل في نفس الشاعر يؤكد أنه لا بد من مجيئ صبح بعد عتمة كل ليل طويل،ولا بد للحياة أن تزهر.كل هذه التعابيرجاءت بلغة بسيطة وسهلة بعيدة كل البعد عن النزعة القاموسية فلا تستدعي معجما وإنما تستدعي خيالا واسعا وقدرة على التأويل وكذا المعرفة العميقة نظرا لاعتماد الشاعر على الرمز والأسطورة. جمعت القصيدة بين حقلين متناقضين هما الموت والحياة،موت شكله سربروس ببطشه وسفكه للدماء،وحقل الحياة يمثله كل من تموز و عشتار إلـهي الخصب والحياة كل هذه الرؤى تبين سيادة الظلم والحزن في البداية وبعدها ساد الخصب والضياء،فتشكلت نهاية كلها أمل في الحياة متخذة بعدا حداثيا لازم الايقاع الذي جاء ليكسر فيه الشاعرالنظام الخليليي ويعتمد علا نظام التفعيلة الواحدة.فحطمت الثوابت وراحت القصيدة ملازمة لرؤى الشاعر ودفقته الشعورية التي يمكن لسطر واحد أن يحتويها أو أكثر،فإما أن تأتي جملة طويلة وتستدعي أكثر من سطر ومثال على ذلك (أكانت الحياه ـ أحب أن تعاش والصغار آمنين؟)ففي السطر الاول لم يمتلئ المعنى مما استدعى سطرا آخر على شكل تساؤل نظرا لهيجان نفس الشاعر فدفقته الشعورية استدعت أكثر من سطر ليخرج لواعج الكلام الدفين،كما أن هناك في بعض الاحيان أسطرا شعرية قصيرة كقول الشاعر(تموزنا الطعين)كلها جمل استدعى وجودها نفسا شعريا قصيرا فجاءت قصيرة،كما تسود في النص ظواهر إيقاعية منها التكرار الحاضر بقوة ومن أمثلته نجد تكرار بعض الأسطر (ليعو سربروس في الدروب)وتكرار بعض الكلمات (أكانت) كل هذا أضفى على النص جمالية موسيقية كما أنه جاء ليساهم في بناء الرؤيا الشعرية لدى الشاعر كما أدت التفعيلة التي جاءت تامة تارة وناقصة اخرى إلى تنويع القوافي،فجاءت متتابعة (وشدقه الرهيب موجتان من مدى ـ تخبئ الردى)وأتت مرسلة (ليعو سربروس في الدروب)من هنا يتبين لنا التمثيل الواضح للحداثة على مستوى البنية الايقاعية.فهل سيتم أيضا على مستوى الصورة الشعرية؟
على ضوء دراستنا للقصيدة نلاحظ أنها خرجت عن المألوف.فجاءت بوسائل جديدة ومتعددة منها الاسطورة ويتضح هذا من خلال أسطورة سربروس الوحش ذو الثلاثة رؤوس المفتوحة الافواه باستمرار يحمي مملكة الموت في العالم السفلي وقد جاء به الشاعر للدلالة على الموت والفناء. كما أنه جاء بأسطورة تموز وعشتار إلـها الخصب والحياة والحب.تموز الذي بموته تهدد الحياة بالفناء،إلا أن عشتار تأتي لتنقذ العالم فتأتي به من العالم السفلي.لكن هذه الاسطورة تتضمن انزياحا فقد خرجت عن منحاها،واتخذت منحى أسطورة فينوس ومن هنا قد أخرج الشاعر هذه الاسطورة من دائرتها الزمنية وجاء بها لتخدم أفكاره.فاتخذها أداة فنية معاصرة لتحليل مجتمعه الذي هو في حاجة إلى التغيير والتضحية بالدماء من أجل البقاء،فإن شكل الموت نهاية بالنسبة لأشخاص فإنه يشكل بداية لأمة وحضارة بكاملها.هكذا ساهمت الاسطورة هنا في تقديم رؤية فنية وفكرية لدى الشاعر اتجاه المجتمع ومشكلاته.كما كان الرمز عاملا أساسيا في تجديد الرؤيا وتوضيحها فقد تواجد الرمز الطبيعي بكثرة فتم ذكر كل من السماء والحقول والازهار.كما احتوت القصيدة رمزا واقعيا ثمثل في سربروس الذي دل على الفناء والخراب.كل هذا يبين لنا التطور الذي عرفته الوسائل الفنية التي جاءت لتسهل على الشاعر تصوير رؤياه وتوضيحها،فاتخذت بعدا حداثيا هي أيضا
أما على مستوى الأساليب فقد جاءت القصيدة على شكل قصة مسرودة والسرد يستدعي شخصيات ألزمت حضور ضميرالمفرد الغائب لكل شخصية،منها سربروس وتموز وكذا عشتار.كما حضر ضمير الجماعة الذي عبر به الشاعر عن نفسه تأكيدا على التجربة الجماعية فتجربته هاته ليست بتجربة ذاتية حياتية وإنما تجربة أمة منهزمة يهددها خطر سربروس.كما يلاحظ في القصيدة حضور للأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل.ماض ساهم في تأزم الحاضر ومستقبل يتنبؤ له بالشروق والضياء،وهذا من خلال أفعال انقسمت بدورها إلى مايدل على كل من الفناء والتشتت كقوله(المهدمة،يمزق الصغار) وقسم آخر دل على الجمع والانتاج وقد تمثل في قول الشاعر(تلمه في سلة كأنه الثمر)كل هذا جاء من خلال حبكة درامية لها عناصرها من أبطال،بطل مثله سربروس وبطل معاكس تمثل في شخص تموز الذي لا بد له من بطل مساعد أدت دوره عشتار ضمن قصة بدأت من وضعية متأزمة ملؤها الضمار والخراب.واستوسطتها عقدة تمثلت في قتل سربروس لتموز ونثر أشلائه إلى أن تم الوصول إلى النهاية التي استعجلت بجمع و لملمة تموز وزرع الأمل وتوليد الضياء مما جعل من النهاية نهاية سعيدة ومفتوحة
وأخيرا لا يمكن القول إلا أن بدر شاكر السياب قد أخذ في قصيدته هذه بجميع مبادئ الحداثة،فمس جميع جوانبها إذ شكلت قضية شائكة وتحولت بمضمونها هذا من قصيدة تمثل شعبا معين في موطن محدد إلى قصيدة تمثل قضية كونية تمس البشر

تحليل قصيدة البئر المهجورة

تقديم:
 
إن التحول الذي عرفه الشعر لم يقف عند القفز على الثوابت العروضية والتمرد عليها كما هو متجسد في خطاب تكسير البنية.بل تجاوز ذلك بإرساء أسس حضارية حديثة تضمن ديمومة المشروع الحداثي الشعري . إن هذه الحداثة الشعرية تقوم على مفهوم الرؤيا باعتباره كشفا متجددا لعالم في حاجة دائما إلى كشف وثورة مستمرة .وبالتالي ينعدم النموذج الشعري .ولا سبيل للتخطي والتجاوز إلا بالانفتاح على التجارب العالمية وإعادة قراءة التراث الإنساني من منظور جديد. وإذا كانت القراءة النصية غالبا ما اتخذت مطية لإثبات تصور مسبق أو موقف قبلي إلا أن قراءتنا للبئر المهجورة ليوسف الخال لن تتجه نحو نفس المقصد بل تتوخى رصد التضاريس الفنية المميزة لهذا الخطاب الشعري على عدة مستويات انطلاقا من كون لحمة مكونات النص لاتخرج عن إطار العلاقات التفاعلية بين جميع المكونات الحاضرة والغائبة
تفضي الملاحظة الأولية لشكل النص أنه يندرج ضمن خطاب من الخطابات الشعرية المتمردة على الثوابث(تجديد الرؤيا). فما حدود هذا التمرد؟ وما تجلياته. إن الجواب رهين بمقاربة القصيدة في جميع مستوياتها. و أول ما يثير في القصيدة عنوانها وتؤول هذه الإثارة إلى المفارقة الكامنة داخله اعتمادا على التداعي . فالبئر في الموروث الثقافي ترمز للحياة كما ترمز للإخفاء لعمقها تحت مقصدية إما الإيجاب أو السلب إلا أن وصفها بالمهجورة يجعلها مناسبة للإخفاء والستر. ألم يتخذ أبناء يعقوب البئر مكانا لإخفاء النبي يوسف عليه السلام فكانت محنته الأولى. وعلى أساس هذه المحنة يمكن افتراض أن طبيعة التجربة التي سيعبر عنها يوسف الخال تجربة مأساوية. وبناءا على هذا الافتراض ما دواعيها؟
 
البنية السطحية للقصيدة: فهم النص تعلن القصيدة في مدخلها عن العلاقة الحميمية بين الذات و إبراهيم باعتبارها شخصية محورية مركزية. شخصية تنجز الفعل وتحققه دون تراجع ونكوص.إبراهيم إنسان عادي يعيش حياته اليومية ويحمل بعدا دينيا وتاريخيا استمده من النبي إبراهيم الخليل الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها كما استمده من المسيح المخلص. إن ما يميز إبراهيم داخل عالم القصيدة هو علاقاته بالآخرين : هو مصدر الحياة والعطاء في صحراء تنعدم فيها شروط الحياة لكن الآخرين لايهتمون به نفس الاهتمام .إن العلاقة غير متعادلة بين إبراهيم والآخرين. فرغم كونه منحهم الحياة باعتباره المصدر/البئر التي يفيض ماؤها يكن له الآخرون البغض والعداء وينعتونه بالجنون
و في الوحدة الثانية تنمو القصيدة وتتطور عبر التركيز لمرة ثانية على إبراهيم وفعل التضحية الفردي المؤشر عليه بتكرير الفعل المشروط/ لو كان لي..... الذي يقدم عليه بغية بعث الجماعة.إبراهيم هو المسيح الذي يفدي العالم بموته مادام يشعر بمسؤوليته اتجاه الآخرين وهو يذكر بافتداء الشعوب نفسها بتقديم القرابين للآلهة الغاضبة فتستمر لديهم الحياة. إلا أن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار نفس الحياة وإنما لتغييرها للأفضل. ومن مظاهر هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها الافتراسية فيعم السلام والأمن وتسترجع المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الأصلية التي فقدها الإنسان المعاصر كما يسترجع الإنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى أرض معاده. ولعل هذه المبادئ الحياة-السلم-الكرامة-محو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحي من أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص الإنسان حديثا
.
إن هذه المتمنيات التي صيغت عبر الاستفهامات ستتحول إلى واقع في الوحدة الثالثة حين واجه إبراهيم الرصاص والموت ورماه الآخرون بالجنون.

البنية العميقة: التحليل عبر المستويات.
*المعجم والحقول الدالة والمرجعية والعلاقات
وتأسيسا على هذه القراءة الأفقية يجوز توزيع مؤشرات المعجم الشعري إلى حقلين دالين
:
الحياة: يفيض ماؤها- تبرعم الغصون في الخريف- يحول الغدير سيره- ينعقد الثمر- يطلع النبات في الحجر- أن أعيش من جديد- لاتمزق العقبان قوافل الضحايا-يأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين- يعود يولسيس-يبصر الطريق

-.....
 

الموت:أنشر الجبين على سارية الضياء من جديد- دمه- أن أموت من جديد- دمعة الذليل- العدو- مدافع الردى- الرصاص-لم يسمع الصدى- ظل سائرا

-....
 

وانطلاقا من هذا التصنيف للحقلين الدالين تبدو الخلفية الكامنة وراء تشكيل الرؤيا. أبرزها الخلفية الدينية متمثلة في إبراهيم والمسيح وربما موسى باستحضار علاقته بابنتي شعيب لحظة السقيا والفلسفة الوجودية باعتبارهذه الأخيرة تشكل المرجعية الفلسفية لمجلة شعر. إن إبراهيم شخصية تمثل الغربة والافتداء والموت الفردي من أجل الجماعة. وهي تمثل كذلك قيما ومواقف ورؤى تصب كلها في رفض الزمان والمكان والثقافة والمجتمع والتطلع إلى بديل آخر. وبمعنى آخر تحمل تناقضا وجوديا بين ذاتها العازمة على اختيار أن تعيش تجربتها متميزة وبين المجتمع الذي يحاول أن يخضع هذه الذات الشاعرة لقيمه. إن ما يميز الألفاظ هو قربها من الحياة اليومية كرغبة من الشاعرفي زج القصيدة في ما يمكن أن نسميه 'اللغة اليومية'. وهذا وعيٌ سيتطور عند الخال حتى يصل في أواخر أيامه الى اطلاق دعوته الشهيرة باستخدام اللغة المحكية في الكتابة الشعرية باعتبارها لغة الحياة والناس، فيما الفصحى لغة متعالية، إن لم نقل لغة ميتة تتمدد، باسترخاء الجثة، في قبرها التاريخي.

*التركيب البلاغي: الصور الشعرية:وتعد الصور الشعرية أحد المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها قصيدة الرؤيا.لقد وجد يوسف الخال فيها متنفساً هاربا من سلطة اللغة عبر الانزياحات اللغوية، والرمز والأسطورة باعتبارالأخيرة طفولة العقل البشري. إنها تمثل للشاعر من جهة إحدى أدوات امتلاك اللغة ومن جهة ثانية تهدف الى الكشف عن الرؤيا الشعرية وهي من جهة ثالثة أداة تعبير عن هذه الرؤيا بلغة تقترب من حيث قاموسها ـ على الأقل ـ من اللغة اليومية،وتأسيسا على هذا أصبحت الوظائف الممكنة للصورة الشعرية تغريبية وبنيوية :"يحول الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف"،.فإذا كانت الوظيفة البنيوية للصورة الشعرية تتمثل في المشاركة الفعلية في بناء القصيدة بناء عضوياً اعتمادا على الرمز والأسطورة فإن التغريب يؤوب إلى المفارقات ا لبعيدة بين مكونات الصورة التي يمنحها التأويل انسجامها’ ولننظر إلى قول الشاعر في جمعه بين المتنافر"أتضحك المعامل الدخان؟". فمن الدلالات السياقية للدخان السوداوية والمعاناة والمحمول الفعلي تضحك يدل وفق المألوف على الانتشاء غير أن الانسجام يتحقق بجعل الضحك يحمل دلالة السخرية.... ورغم كثرة الصور وتراكمها في القصيدة فإننا يمكن أن نكثفتها في دلالتي النبوة والتضحية :فالذات الشاعرة تحضر كنبي وضحية في نفس الآن: تستشرف المستقبل وتبشر به إلا أن المجتمع يقف ضدها ويضطهدها كما اضطهد الأنبياء ؟. وعندما فشلت الذات/ النبي في تحقيق المشروع تنعزل وتنطوي على ذاتها بتخطي الواقع والمجتمع مستبدلة هذا الواقع والمجتمع بالرؤيا الميتافيزيقية. و من سمات هذه الرؤيا الرفض والغربة والنفي والوحدة والحرمان والرفض والاضطهاد. وما هذه السمات إلا مظهرا من مظاهر الخلفية الفلسفية الوجودية ناهيك عن قرار الاختيار. اختارت ما تؤمن به وعادت إلى ذاتها. إن إبراهيم لم يستجب لنداء الجماعة ولم يفضل ما فضله رفاقه من العودة إلى الوراء باعتبار أن مصدر معرفته اليقينية ذاته ووجب عليه أن يعيش هذه المعرفة كتجربة حياتية فيختار طريق الجنون من منظور الآخرين. لقد رسم إبراهيم لنفسه مسارا حياتيا ووقع فريسة الاغتراب الناتج عن انعدام التواصل مع الآخرين وهذا يدل على الانفصال والتعارض. ولم يقتصر التعارض بين الذات والآخر بل تجاوز ذلك إلى التعارض بين حضارة الصحراء المرفوضة وحضارة الماء المأمولة. حضارة الصحراء يجسدها الزمن الراهن وحضارة الماء يمثلها الماضي الذي ينبغي أن يبعث من جديد. فإبراهيم هو الوحيد الذي اعتبر بئرا يفيض ماؤها في أرض قاحلة. وإذا كان الماء يشكل العنصر الملازم للبحر فإن الماء ينذر في الصحراء وهذا الكشف الشعري ليس كله تخييلا مطلقا بل ينبني على مرجعية إيديولوجية تكمن في المشروع القومي الاجتماعي السياسي فالبحر ليس رمزا للحياة باستحضار أن الماء مصدر حياة كل شيء كما أن الصحراء ليست رمزا للموت لأن الماء ينذر فيها وإنما هما رمزان لحضارتين متعارضتين حضارة العرب وحضارة الغرب المتوسطية. إن الشرخ الهائل بين الذات والعناصر المؤتثة للفضاء الشعري من جماد وإنسان ترسم قسماتها قصيدة البئر المهجورة مستعيرة الرمز والأسطورة: إبراهيمالمسيح- عوليس- أوديب-الخروف-. إن وجود البئر في الصحراء كبشير خير وبركة يقوي التداخل العميق بين النص المقدس(المتن الديني) وبين القصيدة تداخلا تذوب داخله تفاصيل أحداث المحكي الأصلي. يستوقفنا هنا التقابل بين إبراهيم النبي/خليل الله وإبراهيم المضحي/خليل الشاعر. المسيح المصلوب وإبراهيم المصلوب على سارية الضياء رغبة في تحقيق العدل وتحقيق التطهير. وتتحكم في بنية القصيدة وجدلية العلاقات حركتان: الأولى تتجسد في صورة إبراهيم قبل التضحية والثانية بعد التضحية وما نتج عنها من تحولات في الرؤى والمواقف من لامبالاة إلى اندهاش. فالحركة الأولى تأسست على أساليب الرجاء(ممكن التحقق ) والتمني (استحالة التحقق). لقد تواترت العبارة" لوكان لي" خمس مرات تارة تتعلق بالتضحية وتارة بالافتداء وهذه الحركة تؤسس للرغبة في الفعل(الإرادة) وتخمن ما يترتب عن الفعل المأمول. وبما أن الفعل يعبر عن نكران الذات باعتبارها صارت قيمة مفقودة كما يعبر ممارسة التطهير عبر التضحية فإن الآمال في التغيير والتحول تمس الطبيعة الصائتة والصامتة وتمس الحضارة والإنسان. لقد تحول المعجز من إطار الغيب إلى الإطار الإنساني من تضحية إبراهيم بابنه استجابة لأمر الله إلى تضحية إبراهيم بنفسه لمحو الظلم ونشر العدل والمحبة والسعادة. وفي إطار المتن الديني دائما تماهت الشخصية المركزية من جديد مع المسيح تعبيرا عن الخلاص ومحو الخطايا
واقترن المسيح في هذا التشكيل باستحضار عوليس(يولسيس) البطل الميثولوجي الذي يعاني عذاباً شديداً على المستوى النفسي والجسدي والذهني ويجتاز المهالك، منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي، ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه. أما الجركة الثانية فانتقال من القول إلى الفعل وتأكيد حضور الذات لحظة المواجهة والتصدي والاستشهاد ونكوص وتراجع الآخرين. ومع ذلك لم يعرف تقديرا من قومه. وانطلاقا من هنا يبدو البناء العضوي للقصيدة الذي ساهمت في تماسكه الكثير من العناصر. من بينها الأساليب الموظفة والضمائر والإيقاع الخارجي والداخلي.
التركيب النحوي والتداولي:فعلى مستوى الأساليب نجدها تتأرجح بين الخبري الابتدائي والإنشائي الذي تجسد في مجموعة من الصيغ كالاستفهام الذي غابت فيه القوة الإنجازية الحرفية التي يتم تقديرها بالهمزة في السطر التاسع وحضرت فيه القوة الإنجازية الاستلزامية :الإثبات وإن كان يرتبط الإثبات بالبديل والتطلعات المتعلقة بنشر القيم الإنسانية النبيلة وثراء الحياة وخصبها يقول الشاعر: " ترى ، يحول الغدير سيره...ويطلع النبات في الحجر؟" أتبسط السماء وجهها فلا تمزق العقبان في الفلاة قوافل الضحايا؟........لا بدمعة الدليل؟" والتمني "لو كان لي أن أموت أن أعيش من جديد" فقد حافظ فيه الشاعر على معنى الاستحالة وإن كان يرتبط بالرغبة والإرادة في الفعل والأمر"تقهقروا، تقهقروا". الصادر عن آمر مجهول وكأنه الصوت الخفي الذي يسيطر على الآخرين ويشكل لديهم الثابت الذي لايمكن التمرد عليه باستثناء إبراهيم. ورافق هذا التنويع في الأسلوب تنويع في نوع الجمل الفعلية التي توزعت بين الحاضر والمستقبل من جهة وبين الماضي من جهة أخرى . وإذا كان الفعل الماضي يحدد زمن علاقة السارد بإبراهيم الغارقة في القدم ويبين كيفية المصير الذي آل إليه فإن المضارع يعلن عن التحول المأمول و يمثل الحلم والتبشير بالغد الأفضل. وبما أن ضمير المتكلم يحيل على إبراهيم وضمير الغائب يحيل على السارد فإن الخطاب الشعري استنادا للضميرين يحمل الوظيفة التعبيرية الانفعالية والوظيفة المرجعية إلا أنهما ليسا بالوظيفتين المهيمنتين بل الوظيفة المهيمنة للوظيفة الجمالية التي حققتها الصور الشعرية والإيقاع
الموسيقى الخارجية والداخلية:وعلى ذكر الإيقاع تبنى الشاعر الوحدات الوزنية للرجز كخلفية موسيقية إلا أنه خالف المعتاد والثابث في هذا الجانب بتقديم اشتغال جديد على هذا المعطى وفق تجربته. وللتوضيح نورد الأسطر الشعرية الأولىمفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلاتنمفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعل مفاعلن مفاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل لقد اكتسبت القصيدة بنيتها الإيقاعية اعتمادا على تكرير الوحدات الوزنية(مستفعلن) و تكرير المقاطع وتدعيم هاذين بتكرير اللفظ (عرفت) والجملة( لوكان لي أن ) وترديد الأصوات مع مراعاة أحيانا الموقع مثل ترديد الراء في الأسطر الشعرية الأولى ( لاحظ أن الراء يحضر تقريبا في الكلمات الأولى للسطر الشعري )واستخدام التوازي(الاستفهام+الفعل+الفاعل...). وحتى لانطيل في هذا الجانب من الأفضل أن ننتقل إلى جانب يكاد يغفل في مقاربات هذا النوع من الخطابات.يتعلق هذا الجانب بعلامات الترقيم والبياض .إنهما يخدمان الموسيقى والتنظيم والدلالة والقراءة والدفقات الشعورية في علاقتها بالوقفات الثلاثة لقد أفضت بنا العملية الإحصائية إلى نتيجة مضمونها أن نسبة الأسطر الشعرية التي وظفت فيها الفاصلة مرتفعة إذ يلغت اربع وعشرين مرة مقارنة مع النقطة التي لم تتجاوز عشرة مرات. إن الفاصلة داخل النص تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم تكتمل بعد أو اكتملت غير أنها تشترك مع ما يعقبها في الحكم دلالة وتركيبا مما يرسخ الانسياب والاسترسال بين الأسطر الشعرية، كما تؤشر على التعارض بين مقتضيات العروض ومقتضيات التركيب والدلالة قائمة، وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض الدلالي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة .وفي هذا المقام يحضر التقابل بين الوصل والفصل .أما النقطة والبياض فيحققان وظائف متنوعة: ففضلا عن الوظيفة المألوفة التأشير على تمام المعنى وإفادته هناك التأشير على نهاية المقاطع. ولا ننسى أن علامتي الاستفهام والتعجب تضافرتا مع النقطة لأداء هذه الوظائف المتعددة. ومن المفيد أيضا، أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم الأسطر الشعرية بالاتساق ويقصد به هنا اتحاد الوقفات
إضافة إلى هذه المكونات هناك تداخل الخطابات ولعل الخطاب القصصي حاضر في القصيدة بشكل بارز.ويتجسد في البناء الدرامي باعتباره جسما متكاملا في حد ذاته ويتشكل من عناصر متناسقة كل منها يقوم بدوره في مرحلة معينة(المقدمة /العقدة/النهاية) الأمر الذي يتيح النمو والحركة باتجاه المصير والمآل. والسارد والبطل المأساوي والحوار الداخلي والحوار الخارجي والسرد والوصف
الخاتمة: الحكم النهائي نخلص من كل هذا إلى أن هذه القصيدة اغتنت بعوالم تخييلية بفعل محاورة النصوص الدينية والأسطورة والتراث الأدبي والقيام بالتفكيك مما مكن كذلك من تفجير الأسئلة الوجودية . وأصبح المنسي يأخذ حضوره وراهينته. هذا من جهة أما من جهة أخرى لاحظنا كيف جسد الشاعر من خلال هذه القصيدة تصوره الحداثي للشعر والانزياح به نحو فلسفة التجاوز والتخطي والتمرد على الجاهزية والثوابث في مختلف المستويات دون إحداث قطيعة معرفية مع الموروث الإنساني... 

قراءة في قصيدة البئر المهجورة

الشاعر:ولد يوسف الخال في طرابلس في لبنان سنة 1917 , درس الادب والفلسفة في الجامعة الاميركية في بيروت و تخرج سنة 1944 , ثم التحق بسلك التدريس في الجامعة الاميركية حتى سنة 1948 , ثم عمل في الصحافة . سافر الى الولايات المتحدة و عاش فيها 7 سنوات (1948-1955) عمل خلالها في الامم المتحدة و في تحرير جريدة (الهدى) الصادرة في نيويورك , ثم عاد الى لبنان و عمل من جديد بالتدريس في الجامعة الاميركية حتى سنة 1958, اصدر مجلة (شعر) و ظل يصدرها خلال 7 سنوات (1957-1964) , حيث توقفت , ثم عاد لاصدارها مرة اخرى سنة 1967 كذلك اصدر مجلة ادب لمدة سنتين 1961-1963 . اصدر عدة مجموعات شعرية و كانت قصيدة البئر المهجورة من ديوانه الثاني الصدر سنة 1958 و المسمى باسم القصيدة البئر المهجورة

الشكل و المبنى :
قصيدة البئر المهجورة من الشعر الحديث اتيع فيها الشاعر يوسف الخال اسلوب التفعيلة ملتزما تفعيلة واحدة هي مستفعلن غير ملتزم بعددها في السطر الواحد وغير متقيد بقافية موحدة .
و لغرض التبسيط يمكن تقسيم هذه القصيدة الى 4 مقاطع بحسب الاصوات المستعملة فيها :
أ‌) مقطع على لسان الراوي ( أوّل 5 اسطر) يشرح فيه علاقته بالشخصية التي تدور حولها القصيدة وهي شخصية ابراهيم. ويلاحظ هنا التنافر والاصطدام بين ابراهيم الذي يصوره الشاعر بئراً يفيض ماؤها دلالة على العطاء والخير, وبين سائر البشر الذين لا يعيرونها ادنى اهتمام ايجابياً كان او سلبياً.
ب‌) مقطع على لسان ابراهيم يتخلله تعليق قصير للراوي يبدأ بقول ابراهيم : "لو كان لي ان انشر الجبيين ..." ويمتد الى قوله :"... ليبصر الطريقة" (22 سطراً) وفيه ينقل الراوي الينا حديثاً مباشراً لابراهيم في رسالة كتبها ابراهيم بدمه الطليل كما يقول الراوي. وتبرز هنا رؤيا ابراهيم واحلامه في تغيير الواقع والوجود من خلال تساؤلات تشمل الطبيعة, وعلاقة الانسان بالطبيعة وحياة الانسان كمركز للوجود. وتكشف هذه التساؤلات ان احلام ابراهيم كبيرة ويتطلب تحقيقها تفجيير امكانات خارقة للمألوف
ج) مقطع على لسان الراوي يتخلله حديث مباشر بصوت مجهول يبدأ بقول الراوي : " وحين صوب العدو مدفع الردى" ويمتد الى قوله "... لعله جنون " (16 سطراً) . وفي هذا المقطع يتحدث الراوي عن (ابراهيم) و من معه من الجنود الذين يواجهون سيلا من رصاص العدو فيصيح بهم صوت مجهول ان يتقهقروا الى الوراء . فيتقهقر الجميع الا ابراهيم الذي ظل سائراً الى الامام متحدياً الرصاص, واذ سقط ابراهيم يقول الآخرون كما يورد الراوي: انه الجنون, ويعلق :لعله الجنون.
نلاحظ في هذا المقطع تكرار: "تقهقروا" مرتين في موضعين: الأول:صوت مجهول,
الثاني: صدى الصوت الأول.
كذلك نلاحظ تكرار ( لكن ابراهيم ظل ساهراً) في موضعين, وذلك تأكيداً على ان ابراهيم لم يعر التحذير اهتماماً ولم يبال بالموت.
د) مقطع على لسان الراوي ويبدأ بقوله: "لكنني عرفت جاري العزيز..." ويمتد الى نهاية القصيدة: "... ترمي بها حجر" (6 اسطر) وهو يشكل اعادة لكلمات المقطع الأول مما يعطي القصيدة شكلاً دائرياً لا مغلقاً, وهو شكل مستحب عند الكثيرين من انصار الشعر الحديث ومتبع لديهم.
اما الأصوات التي قسمت بحسبها فهي 3 : صوت الراوي , صوت ابراهيم وصوت مجهول.
في المقطع الأول يظهر صوت الراوي منفرداً ومتحدثاً عن ابراهيم بلهجة سردية.
وفي المقطع الثاني يظهر صوتان , الأول: صوت ابراهيم في حديث مباشر (مونولوج), والثاني: صوت الراوي في تعليق قصير .
في المقطع الثالث: يظهر صوتان ايضاً, الأول: صوت الراوي سارداً احداث المواجهة ومعلقاً على اصوات الآخرين. والثاني: صوت مجهول يصيح بالجنود:"تقهقروا..." ويعلق على فعل ابراهيم بقوله انه الجنون.
واما المقطع الرابع فيعود فيه صوت الراوي الى الظهور منفرداً ليتحدث بلهجة سردية مرة اخرى مكرراً كلماته في المقطع الأول.
الفكرة المحورية :
من مميزات القصيدة الحديثة انها توحي لقارئها او دارسها بأكثر من فكرة واحدة مما يبقيها موضع اهتمام الدارسين ومصدر ايحاء لافكار متعددة ومتجددة. وهذا ما نجده واضحاً في قصيدة البئر المهجور ونحن حين أخذنا على عاتقنا مهمة تحليل النّص نحاول ان نجد عدد من الأفكار التي نستوحيها من هذه القصيدة دون ان ندعي الاحاطة بكل ما يمكن لهذه القصيدة ان توحي به :
يمكن ان نرى في القصيدة صراعا بين المثل و الواقع ينتهي بانهزام المثل او سقوطها امام الواقع , لدلالة ان ابراهيم الذي يمثل المثل والقيم ويريد تحقيقها يسقط دون ذلك, ويأتي تعليق الواقع على عمله بأنه جنون.
ولكن فهم القصيدة على هذا الأساس محدود وبعيد عن التعمق لأن القصيدة لا تنتهي بموت ابراهيم بل تستمر في دائريتها لنسمع صوت الراوي يثير الشك حول جنون ابراهيم بقوله مستدركاً: "لكنني عرفت جاري العزيز من زمان" .
لقد اخفق ابراهيم في مواجهة الواقع, ولكن الرؤيا المستقبلية موجودة وقائمة لم تسقط بهذا الاخفاق, بل ازدادت وضوحاً بأن الموت سوف يكون طريقاً لتحقيق الاحلام وتطبيق القيم والمثل.
واذ كانت المعجزات الخارقة قد تحققت بالماضي عن طريق الأنبياء والأبطال فان الشاعر يوسف الخال يرى بأنه ممكن تحقيقها في عصرنا هذا عن طريق الانسان العادي محاولاً بذلك ان يزيل الفوارق بين الأبطال والناس العاديين.
يمكن ان نرى في القصيدة مظهراً من مظاهر تحقيق الذات من خلال تحدٍ هائل للواقع اذ يضطر ابراهيم من اجل ذلك ان يضحي بنفسه مما يلفت اليه انظار الآخرين ويجعلهم يعترفون بوجوده, ولو سلبياً ولذلك تمثل بقول مجهول:"وقيل انه الجنون", بعد ان كان ابراهيم تلك البئر التي يمر بها سائر الناس دون ان يشربوا منها او يلقوا بها حجراً.
وهنا تمكن الاشارة الى لون من الوان سخرية الوجود وعبثية القدر اذ يضطر الفرد الى التضحية بنفسه في سبيل تحقيق الذات.
تثير القصيدة علامة سؤال حول امكانية تحقيق الأهداف عن طريق العمل الفردي, ربما كان ذلك مستحيلاً من خلال رؤيتنا لموت ابراهيم وسقوطه دون تحقيق اهدافه, او ربما كان ذلك ممكنأ من خلال الرؤيا المستقبلية وما يقترن بها من تحقيق الأهداف بعد او من خلال تضحية الفرد الواحد.
الاسلوب و اللغة :
تتميز هذه القصيدة بدراميتها اذ انها قريبة من القصة و تعتمد على الحدث المترابط في تطوره و نهايته , و لذلك تقل فيها العناصر الغنائية او الوجدانية التي تميز الشعر الوصفي فهي تبدأ بذكر ابراهيم و تشبيهه بالبئر ثم تنتقل الى ما حذث له من تحدّ وآمال وموت. ثم ترك المجال مفتوحاً امام القارئ ليتصور ما اراد ان يوحي به هذا الشاعر في ختام هذه القصيدة.
اما التعبير فيجري في المقطع الأول سرديأ مباشراً دون ان يخلو من الايحاءات, فابراهيم يوحي بالنبوءة والتضحية كما يوحي بالشخصية العادية المألوفة, والبئر توحي بالعطاء: مما يفسح مجالاً لتعدد صور الفهم والتفسير. ومثل ذلك نجده في المقطع الرابع الذي يكاد يكون تكراراً للمقطع الأول.
بينما يجري التعبير في المقطع الثاني في غالبيته على شكل نجوى داخلية (مونولوج) طويلة تمتد اكثر مما يحتمله منطق الأحداث. وهذه النجوى مليئة بالتساؤلات والاحتمالات البعيدة عن السردية والمباشرة الموجودتين في المقطعين الأول والرابع.
وأما المقطع الثالث فينقل الى القارئ الأحداث الدرامية التي تنتهي بتضحية ابراهيم وما رافق ذلك من نقل صوت المجهول والصدى التعليق.
ولعل هذا المزج بين الأصوات الثلاثة المذكورة يؤدي الى التنويع والحركة مما يزيد في درامية القصيدة كلها.
ومما يميز اسلوب التعبير في هذه القصيدة:
- استعمال الاشارات الدينية والاسطورية مثل الخاطئ الاصيب بالعمى والولد العقوق والخروف وعودة يوليسيس (1). واستعمال الاشارات مظهر من مظاهر الشعر الحديث الذي يعتمد الايحاء.
- والاعتماد على التكرار كنوع من الموسيقية ولأجل ترسيخ الفكرة, مثل:"ترمي بها حجر" و "لكن ابراهيم ظل سائراً الى الأمام"...
- تحطيم الاسلوب الكلاسيكي الذي كان ينهي الجملة والمعنى المقصود بانتهاء السطر, فنحن نرى في هذه القصيدة ان الجملة لا تنتهي في نهاية السطر بل تستمر الى السطر التالي وتبدأ الجملة التالية رأساً دون الانتقال الى سطر جديد. وهو اسلوب معتمد في الشعر الحديث يرمي الى دفع القارئ للاستمرار وعدم التوقف في نهايات الأسطر لكي تظهر القصيدة وحدة واحدة متماسكة
اما لغة القصيدة فاننا اذا نظرنا اليها من وجهة نظر كلاسيكية لاحظنا افتقارها الى الجزالة التي كانت عنصراً هاماً من عناصر الجمالية في الشعر العربي القديم وما سار في طريقه من الشعر المعاصر.
ونلاحظ بعض الاستعمالات الخاصة بالشعر الحديث مثل: المعامل الدخان بدل المعامل الدخانية, والخاطئ الاصيب بالعمى والملجأ الوراء حيث استعمل ال الموصولة بمعني الذي مما يقرب التركيب من اللغة العامية بالرغم من ان ال بمعنى الذي معروفة في النصوص الكلاسيكية القديمة الا انها كانت محدودة الاستعمال ثم اهملت الى ان اعاد استعمالها شعراء الحداثة.
ولكن يبدو ان الحداثة في الشعر المعاصر فرضت تراكيب كلاسيكية فصيحة الى جانب تراكيب قريبة من اللغة العامية, كما فرضت في الموضوع اعتماداً على تراث عالمي اجنبي الى جانب تراث ديني او ادبي مألوف مما يشكل تناقضاً واضحاً وغموضاً احياناً يعمد اليهما الشاعر عمداً واعياً.
ملاحظات:
يمكن ان نرى في هذه القصيدة قراءة جديدة واعية لرؤيا يوحنا (كن اميناً على الموت فسأعطيك اكليل الحياة فصل 2 آية 10 ) ويستمد الشاعر اسم ابراهيم من التراث الديني ويحمله تداعيات دينية ابرزها النبوّة والتضحية ويختار ابراهيم الموت طريقاً الى حياة جديدة. في حين ان الناس لا يدركون ذلك فيصفونه بالجنون, بينما ابراهيم يأمل او هو مقتنع في داخله وخلال رؤياه بأن الموت سوف يكون كائن ويطلع حياة افضل.
اما الدم فهو عنصر الفداء فقد افتدى السيد المسيح العالم بدمه , و هذا ابراهيم يحاول نفس الشّيء , و سيبقى دمه طليلا الى ان تتحقق المعجزة في بناء عالم مثالي .
وما تجدر ملاحظته في هذا الصدد التقابل بين صورة البئر الذي يفيض ماؤها ودم ابراهيم وما لكلا الصورتين من معنى العطاء.

ملاحظات و اسئلة حول القصيدة : *
- هذه القصيدة تتبع من ناحية الشكل لما يسمى شعر التفعيلة , (وهو يسمى ايضا الشعر الجديد او الشعر العراقي ); ما هي التفعيلة المستعملة في هذه القصيدة ؟
- هل يستعمل الشاعر في هذا الشكل بيتا مقسوما الى قسمين ( أي شطرين او مصراعين ) ؟
- ان وحدة المبنى في هذه القصيدة (و في شعر التفعيلة كله ) هي السطر , ( وبعضهم يسميه السطر الشعري , و اخرون يعتبرونه شطرا ) ; هل يحافظ هذا السطر على طول ثابت في كل قصيدة ؟ وضح اجابتك .
- هل تجد قافية موحدة على طول القصيدة ؟
- هل اهملت التقفية بصورة تامة ؟ وضح اجابتك .
- في كثير من الحالات لا تنتهي الجملة المفيدة مع انتهاء السطر , و انما تستمر الى السطر التالي وربما الى الاسطر التالية ; و هذا الامر يسمى "التضمين" ; وهو مستحب في الشعر الحديث , بخلاف ما كان عليه الحال في الشعر القديم ; اعط بعض الامثلة على التضمين من هذه القصيدة .
- من اهداف هذا التضمين – كما يقول انصار الشعر الجديد - دفع القارئ للاستمرار مع المعنى و عدم التوقف في نهايات السطور , لكي تظهر القصيدة وحدة واحدة متماسكة ; هل تعتقد ان التضمين في هذه القصيدة يحقق الهدف المذكور ; وضح رايك .
- لخص مميزات هذا الشكل ( شعر التفعيلة ).
- قارن بين هذه المميزات و مميزات الشكل القديم ( العمودي).
- في هذه القصيدة ثلاثة اصوات تتكلم ; ما هي هذه الاصوات ؟
- يمكن تقسيم القصيدة بحسب هذه الاصوات الى اربعة اقسام , عين كل قسم منها .
- في أي من هذه الاقسام يظهر الراوي منفردا ؟
- في أي قسم منها يظهر صوت ابراهيم ؟
و أي صوت اخر يظهر في القسم نفسه ؟
- في القسم الثالث يظهر صوت مجهول الى جانب صوت الراوي; ماذا يقول هذا الصوت المجهول ؟
- يعتبر القسم الرابع تكرارا للقسم الاول , فهل جاء هذا التكرار مطابقا تماما ؟ و ما هي فائدة هذا التكرار ؟
- ان القارئ الجيد يستطيع ان يستوحي من هذه القصيدة عدة افكار محورية ; اختر واحدة منها , و دافع عنها معتمدا على نص القصيدة .
- أي تداعيات يثيرها في نفسك اسم ابراهيم؟
- هل تسمي ما قام به ابراهيم بطولة ام جنوناً؟ ولماذا؟
- حلل شخصية ابراهيم.
- هذه القصيدة تحتوي في داخلها على احداث قصصية; ما هي هذه الأحداث؟
- ينتقل الشاعر في هذه القصيدة من اسلوب السرد الى اسلوب الحديث المباشر; اين يظهر كل منهما؟ وما هي فائدة هذا الانتقال في القصيدة ؟ أي الاسلوبين اكثر تأثيرا على القارئ ؟ ولماذا؟
- في أي قسم من القصيدة تكثر التساؤلات؟ وعلى ماذا يدلك هذا الامر؟
- في هذه القصيدة عدد من الاشارات الدينية والاسطورية, بينها ثم اشرح كلاً منها بايجاز.
- يكثر الشاعر الحديث من استعمال مثل هذه الاشارات, فما هي الفائدة التي يجنيها من ذلك؟
- ما هو وجه الشبه بين ابراهيم والبئر؟
- استعمل التكرار في مواضع عديدة من هذه القصيدة, عين هذه المواضع ثم اشرح الدور الذي يؤديه هذا التكرار.
- انتبه لهذه الاستعمالات اللغوية غير العادية, ثم اجب:
المعامل الدخان
الخاطئ الاصيب بالعمى
الملجأ الوراء
لو اردت استعمالات لغوية عادية بدلأ منها ماذا كنت تقول؟ لماذا اختار الشاعر – في رأيك – الاستعمالات غير العادية؟
- انظر الآن الى القصيدة ككل ثم اجب:
ما الذي اعجبك فيها وما الذي لم يعجبك؟ علل اجابتك.

شرح الرّموز الاسطوريّة والدّينيّة في القصيدة:
أ‌. يوليسيس الملاح الذي تاه في البحر وبين الجزر كما ورد في الاساطير اليونانية
الذي اعتمد عليها هوميروس في ملحمة (الاوديسا) وذلك بعد حرب طروادة وظلت زوجته بينولوبي (المرأة التي تفك النسيج) تنتظر عودته حتى ينقذها من الرجال الذين كانوا يريدون الزواج منها, وقد عاد يوليسيس في نهاية الأمر.
ب‌. مثل الابن الضال: انجيل لوقا فصل 15 آيات (11-32) حيث يروي المثل حكاية اب لولدين طلب الأصغر حصته من ابيه فأعطاه ثم ترك الولد الأصغر أباه وسافر بعيداً حيث بدد ماله وعمل ليسد جوعه في رعي الخنازير, ورجع الى والده الذي اشفق عليه والبسه افضل حلة واطعمه لحم العجل المسمن قائلاً: ان ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد.
ج. مثل الخروف الضال: انجيل متى فصل 18 آيات (12-14) حيث يروي المثل قصة الرجل الذي يملك مائة خروف قد ضل احدها فنشده في الجبال حتى وجده ففرح به اكثر من ال99 التي لم تضل.
د. اما الخاطئ الاصيب بالعمى فهو شاؤول الذي كان من اعداء المسيحية واتجه الى الشام لمطاردتهم واصيب بالعمى وشفي بعد ذلك بقوة المسيح فآمن وصار من خيرة دعاة المسيحية وهو نفسه الرسول بولس (انظر اعمال الرسل الأصحاح التاسع).


الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

اشهر الاساطير

 أسطورة أوديسيوس: أسطورة التيه الذي يعقبه اللقاء، تحكي قصة أوديسيوس الذي عاد من حرب طراودة، فَضَلَّ الطريق في 
البحر لعشر سنين، فانتظرته زوجته "بينيلوب" حتى عودته.
• أسطورة سندباد: أسطورة التيه الذي يعقبه اللقاء، وهو رحّالة قام بعدة رحلات لقي فيها الأهوال والمخاطر.
• أسطورة بروميثيوس: أسطورة التيه والعذاب الأبدي، تحكي معاقبة كبير الآلهة "زيوس" لبروميثيوس الذي سرق نار الحكمة من السماء، وأهداها إلى البشر في الأرض، ليكون فيها خلاصهم وسعادتهم، فسلّط عليه نسرا يأكل كبده في النهار، فَيُخلقُ مجددا في الليل ليعذبه وهكذا دواليك، ليعيش في عذاب أبديّ.
• أسطورة سربروس: أسطورة كلب عجيب الخلقة، له ثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه، وتكسو شعره وظهره ثعابين مخيفة، وهو يحرس مملكة الموت أو العالم السفلي.
• أسطورة سبارتكوس: أسطورة الثورة والكفاح من أجل تحقيق الحقوق.
• أسطورة شهريار: تحكي خيانة زوجة هذا الملك له مع عبد من خدمه، وقتله لها، فقرر أن يأتي كل ليلة بفتاة فيقتلها انتقاما من النساء، فلما جاء دور شهرزاد، كانت تحكي له حكاية فتترك بقيتها إلى الغد، وهكذا دواليك حتى كفّ عن قتل النساء، بفضل شهرزاد.
• أسطورة عشتار: إلهة الحب والخصب عند الأشوريين والبابليين.
• أسطورة جلجامش: ملحمة سومرية تحكي رحلة البحث عن الخلود، تتحدث عن ملك اسمه جلجامش، يكرهه شعبه لأفعاله السيئة، إذ يستخدم الناس ويستعبدهم لبناء سور عظيم، فحصل على عشب سحري يعيده لمرحلة الشباب، فقرر أن يأخذه لوطنه،ويجربه على رجل عجوز، لكنه في طريق عودته اغتسل في نهر، فسرقت منه أفعى العشب، ثم عاد صفر اليدين، يشاهد السور الذي بناه ،ففكر بأن عملا ضخما كسوره هو أفضل طريق للخلود.
• أسطورة سيزيف: حكمت عليه الآلهة بالشقاء الأبدي، بحمل الصخور إلى أعلى الجبل، وكلما وصل إلى الجبل أو كاد، يهوي مرة أخرى فيسقط، فيعيد حمل الصخور من جديد.
• أسطورة أورفيوس: هو بطل أسطوري، وهبته الآلهة مواهب موسيقيه، يتميز بعذوبة صوته و جمال عزفه على الآلات الموسيقية و خصوصا القيثارة، نزل إلى العالم السفلي حيث الأشباح والآلهة لاستعادة زوجته، فسحرهم بجمال عزفه، واستعاد زوجته، لكن اشتُرط عليه أن يمضي وزوجته خلفه ولا يلتفت إلى الوراء إلا بعد الخروج من العالم السفلي، لكنه خالف هذا الشرط فكان مصيره أن اختفت زوجت
ه.

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

تحليل النص النظري القصيدة الرؤيا / ادونيس

تحليل النص النظري القصيدة الرؤيا / ادونيس   
 
       يتخد النص شكل مقالة ، وفن المقالة من الفنون التي ولدت في رحم الحداثة في العالم العربي .تطورت بتطور الصحافة ، وانتقال العالم من الثورة الصناعية إلى الثورة الالكترونية القائمة على الرقمنة . وتأسيس مجتمع المعرفة .
يندرج النص إذن ضمن المقالة النقدية ، تطرح في أرض الأدب ظاهرة الشعر الجديد القائم على الرؤيا . والنقد خطاب تال على خطاب الأدب ، انه لغة ثانية تشتغل على لغة أولى .
يتموقع فوق جسد النص الكبير نص صغير يتجسد في العنوان قصيدة الرؤيا) .القصيدة من قصد الطريق أي سلكه ونهجه . وقصد اللغة أي قالها بطريقة غير مألوفة.وقول اللغة بطريقة ثانية إنتاج الكلام ، عن طريق الانزياح والخرق لقانون اللغة . انه الكلام الشعري .
أما الرؤيا فهي على وزن فعلى ما يراه الإنسان في منامه ,.والرؤية بالهاء رؤية العين ومعاينتها للشيء كما في المصباح , وتأتي أيضا بمعنى العلم . والرؤيا في الاصطلاح لا تخرج عن المعنى اللغوي .  وتتصل بألفاظ اخرى منها :
-         الإلهام :إيقاع شيء يطمئن له الصدر يخص به الله سبحانه بعض أصفيائه . والفرق بين الرؤيا والإلهام أن الإلهام , يكون في اليقظة , بخلاف الرؤيا فإنها لا تكون إلا في النوم .
-        الحلم : والحلم والرؤيا إن كان كل منهما يحدث في النوم إلا أن الرؤيا اسم للمحبوب, والحلم اسم للمكروه فيضاف إلى الشيطان . فالرؤيا رؤية ما يتأول على الخير والأمر الذي يسر به , والحلم هو الأمر الفظيع المجهول يريه الشيطان للمؤمن ليحزنه وليكدر عيشه .
-        الخاطر : ومعناه في اللغة ما يخطر في القلب من تدبير أمر , وفي الاصطلاح ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد الذي لا عمل للعبد فيه , والخاطر غالبا يكون في اليقظة بخلاف الرؤيا
-         الوحي : من معانيه في اللغة كما قال ابن فارس الإشارة والرسالة والكتابة وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه , وهو مصدر وحى إليه يحي من باب وعد , وأوحى إليه بالألف مثله , ثم غلب استعمال الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى . فالفرق بينه وبين الرؤيا واضح , ورؤيا الأنبياء وحي .
يؤسس العنوان ، من خلال مكوناته للقول الشعري على أساس الحلم والرؤيا . وهذا ما تفضي إليه الفقرة الأولى من المقالة .فإذا كان الشعر التقليدي يقوم على نظام الوزن والقافية وتداعيات العروض الخليلي ،فانه مع حركة الشعر الجديد نظام يمثل قفزة خارج المفاهيم ، يقوم على الرؤيا .
فما هي الإشكالية التي يعالجها أدونيس في مقاله؟ ما البنيات الدلالية التي تِأطر الموضوع ؟ كيف يقول النص ما يريد قوله ؟ ..
     يمكن تقسم النص الفقرات التالية :
·         الفقرة الاولى : تعريف الشعر الجديد: هو رؤيا تعتبر تغييرا في نظام الأشياء .
·         الفقرة الثانية : الشعر الجديد معرفة لها قوانينها الخاصة : انه إحساس كشفي لجوهر الإنسان عن طريق الخيال والحلم
·         الفقرة الثالثة :توجهات الشعر الجديد نحو التخلي عن :
أ‌-                   الحادثة .
ب‌-               الشعر الجديد يبطل أن يكون شعر وقائع.
ت‌-               الشعر الجديد يبتعد عن الجزئية ،انه رؤيا للعالم.
ث‌-               الشعر الجديد يتخلى عن الرؤية الأفقية.
ج‌-                الشعر الجديد يتخلى عن التفكك البنائي.
·         الفقرة الرابعة : عالم الشعر الجديد ، كشف لما هو غير مألوف .
·         الفقرة الخامسة : الشعر الجديد كشف ورؤيا.
 
 
يعرف أدونيس الشعر الجديد على أنه رؤيا ، ويحدد الرؤيا على أنها قفزة خارج المفاهيم القائمة . بذلك يكون الشعر الجديد نظاما جديدا يتمرد على الشكل الشعري القديم. قوامه المعنى الخلاق التوليدي وليس السرد والوصف . وكلما كانت القصيدة كذلك كانت عالما يظل دوما في حاجة إلى الكشف. من خصائص هذا الشعر الجديد: التعبير عن القلق الأبدي للإنسان . فالشاعر يخلق أسطورة الإنسان كما قال سارتر،يستقطب المشكلات التي يجابهها الإنسان في الكون ...
 هكذا يصبح الشعر الجديد نوعا من المعرفة، قانونها متميز عن قانون العلم ، انه الإحساس والكشف عن جوهر الإنسان ليس بالعقل والمنطق ولكن بالخيال والحلم .
 هنا يتجه الشعر الجديد نحو التخلي عن:
-        الحادثة فالشاعر الحق هو من يتجه نحو الزمن المستقبلي بديمومة الزمن..
-         الشعر الجديد جمالية تفرغ الكلمات من "ثقلها العتيق المظلم، لذا فهو يبتعد أن يكون شعر وقائع..
-         يتخلى الشعر الجديد عن الجزئية لأنه رؤيا للعالم ..
-         يتخلى الشعر الجديد عن الرؤية الأفقية ينظر إلى الأشياء نظرة تتجاوز السطح .
-        يتخلى الشعر الجديد عن التفكك البنائي ، فتأتي القصيدة وحدة متناغمة .
ولأن الشعر الجديد عالم غير متواضع عليه، فهو اكتشاف ما لم يكن معروفا، انه "كيفية الوجود وكيفية تعبير.
القصيدة الرؤيا كشف ورؤيا، تتمرد على الأشكال الشعرية القديمة وتعلو على الشروط الشكلية أساسها الحرية والنبوءة.
 يتجاوز الشعر الجديد  التصوير، إلى الكشف عن واقع الشاعر النفسي والاجتماعي والحضاري واستشراف المستقبل.بوسائل فنية ساهمت في توضيح القيمة الفكرية ،اذ تحول الشاعر عن الوسائل التقليدية لعدم مناسبتها حياته المتغيرة في مضمونها وإطارها فربط الشاعر أدوات تعبيره ووسائله الفنية باللحظة التي يحياها في طليعتها الخاصة  .
قصيدة الرؤيا تعمل في أرض أخرى مختلفة وتتحرك في مساحة خاصة ومحدودة. تنجح في الغوص عميقاً داخل طبقات الروح وتُطِل علىأغوارها السحيقة.
يضعنا أدونيس أمام إشكالية القصيدة الرؤيا، التي ليست تغييرا في مفهوم الشعر فحسب ، وإنما هي تغيير في علاقة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله. إنها قصيدة تتجه عمودياً،بدلاً من ملامسة السطح والانتشار علىمساحة واسعة منه.  العالم الذي تخلقه هو عالم الكشف واستشراف المستقبل .فتأتي  مهووسة بالهمّ وتحمل في ثناياها قدراً كبيراً منالألم.. قصيدةالرؤيا أيضا هي قصيدة الأسئلة. إنها لا تقدم إجابات بقدر ما تبذر الشك والريبة فيكل شيء. وبسبب ذلك فإنها تُعمّق الجرح الوجودي وتفتح عينيّ الإنسان على الطبيعةالعدمية للكون.لا تعتمد قصيدة الرؤيا طرقاً أو ممرات الآخرين في الوصول الىالقارئ. أو لنقل إنها لا تلتفت الى هذه الطرق بالأصل. إنها تومئ وتشير أكثر مما تقول وتوُصّف. كلامها القليل هو بمثابةرموز وإشارات يلوّح بها الشاعر من أرض عزلته. هناك حيث تتلاطم العتمات، وتقف اللغةالخرساء والمخنوقة عاجزة عن سرد الكارثة تنبجس اللعثمات والأصوات أكثر مما تتدفقالعبارات الواضحة المكتملة.عبر هذه اللغة الطقوسية المواربة التي تشيعهاقصيدة الرؤيا يتخفف الشاعر من حمل الهموم الهامشية التي تتسبب بها وقائع هشةوسريعة. انه يترك هذه القضايا الى آخرين غيره فلربما يبتّون فيها. قد يكون هؤلاءحكماء أو قضاة أو خطباء ، أما هو فله حكمته الناقصة أو حكمته الضالة على وجهالدقة. إنه مشغول بكارثة كبرى اسمها الوجود، وبذلك النمل الذي يدب في أعماقه ويقضمعلى مهل برعم الضوء.
نجد أن الكاتب قد استمد مصطلحات ومفاهيم دراسته للشعر الجديد من أربعة حقول معرفية مختلفة من حيث مرجعياتها :
الحقل الأدبي والنقدي
الحقل النفسي
 
الحقل الفلسفي
 
 الشعر الجديد- الطرق الشعرية القديمة – الشاعر الجديد- الحادثة ...
 رؤيا نفسه – الذات – إحساس- الخيال – الحلم ...
نظام الأشياء – الكشف عن العالم – قلق الإنسان- الخلق –مشكلات كيانية – المعرفة- العلم ميتافيزيائية – العقل – المنطق ...
 تهيمن المصطلحات والمفاهيم الفلسفية لأن الكاتب في سياق عرض الفلسفة الجديدة التي يقوم عليها الشعر الجديد. وهي مصطلحات ومفاهيم ستؤسس للنقد والأدب كمؤطرين للقصيدة الرؤيا .
 نجد أن قضية النص متفرعة إلى قضايا أخرى يمكن تجسيدها في ما يلي :
1-    رؤيا مستقبلية / رؤيا أفقية: وهي قضية ترتبط بالزمن كمحدد للوجود البشري : في عالم هو اليوم عالم التشظي والتشيؤ . ولا يغيب عنا أن الشعر عند أدونيستجربة شعرية تصدر عن ذات محتقنة بفحولة التاريخ العربي في واقع يفتقر إلى الفحولة والخصب .تجربة شعرية محتقنة بجموح الحضارة العربية قبل أن يصلت سيف الاستعمار على عنقها.فموقف الشاعر شبيه بموقف المسيح من جثة لعازر.
-         معنى الخلق والتوليد / معنى سردي وصفي : القصيدة الجديدة بنية من الدلالات التي لايقفوها أثر المعنى الوحيد بل سيرورة لا متناهية من المعاني عكس القصيدة القديمة التي تلبس حلية المعنى القريب ، والوحيد .
2-     الخيال والحلم/ العقل والمنطق : الشاعر الجديد، يكتب. والكتابة جمع وإلمام فهو على وعي بالتميز والتفرد في علاقته بالواقع الحضاري المنهار. فجعل معاني الحياة والموت في شعره تسير في اتجاه الخيال والحلم ،حتى ينطلق من اكتشاف مفهوم التحول لدفع الواقع العربي نحو البعث والتجديد وليس بالمنطق والعقل .
يستند الكاتب في معالجة أطروحته على مرجعيات متنوعة منها :
-        التصوف : ثمة شعر يفرض عليك تجربة فريدة، يحرّك نسيج كلماتها في العمق منك ما تجد له في نفسك حالة بحيث إذا بلغت حميمية القصائد تراها مكاشفة تبلغ الماورائيات عبر المعاني العشقية والشعر هو ما لا يمكن أن تقوله بطريقة أخرى.
-        السوريالية : هي مذهب فني ساد فيفرنسا وأوربا خصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين رائد هذا المذهب الفكريوالفني هو اندريه بريتون حيث اعلنه سنة 1924تعتمد السوريالية على الخيال بعيداعن الواقع وكما يعرّفها اتباعها بأنها الخيال والحلم بعيدا عن قيود الواقع. والقصيدة الجديدة تعتمد تجاوز الواقع عن طريق الخيال .
-         الرومانسية: نظرية أدبية جاءت كرد فعل تجاه نظرية المحاكاة .فجعلت الشعر فيضا تلقائيا من العواطف .
الوجودية : اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي فلسفة عن الذات .
-     الرمزية: "هى أسلوب من التصوير غير المباشر والمجازى لفكرة أو صراع أو رغبة لا واعية، بهذا المعنى يمكننا عد كل تكوين بديل رمزى" 
يوظف الكاتب ثلة من طرائق العرض تقوم على :
·      توظيف اسلوب الاستنباط القائم على الانطلاق من الكل الى الجزء . اذ يعرض كلية الشعر الجديد ثم يعرض الجزئيات المتصلة به .
·      توظيف أسلوب الحجاج : فالكاتب يسعى الى اقناع المتلقي بفحولة الشاعر الجديد في عالم الرؤيا .لذا يوظف الاستشهادات لدعم اطروحته :
·      الشعر "هو الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجةالى الكشف " رونيه شار
·      جوهر الشعر ، كما يقول بودلير ، هو " السيردائما ضد الحادثة "
·      الشعر " اكتشاف ما لا يعرف..." كما يقول رامبو .
ان استشهاد أدونيس   بأقوال شعراء غربيين ليعكس ميلاد القصيدة الرؤيا في العالم العربي عن طريق المثاقفة وانفتاح الشاعر على الثقافات والآداب الغربية .
يوظف الكاتب مجموعة من وسائل الاستدلال منها :
-     التعريف والرؤيا بطبيعتها قفزة هخارج المفاهيم القائمة .
-     المقارنة : اذ يصبح الشعر واقعيا يقترب من النثر ..
-     السرد: ..انه احساس شامل بحضورنا ، وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد...
      القصيدة الرؤيا بالمعنى الذي يفصح عنه أدونيس في هذا النص قراءة جديدة لتاريخ الانسان في الكون فاذا كانت قصيدة التفعيلة قد كسرت بنية الشعر ، فان أسئلة جديدة ولدت تتعلق بطبيعة قصيدة الرؤيا . تسعى الى تطوير الايقاع وجعل المضمون هو الذي يؤسس شكل النص فيصبح الشاعر الحق هو من يكسب ما ليس له معنى ، معاني توليدية .