الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

البئر المهجورة اضافة

إن الشرخ الغائر، والهوة التي لا قرار لها بين الذات والعناصر التي تؤثث الفضاء من إنسان وجماد، ترسم قسماتها وتفاصيل خيوطها قصيدة. "البئر المهجورة" مستعيرة مرة ثانية الرمزية الدينية: ابراهيم – يوسف. ويحسن أن نسجل في البداية أن النسق البنائي في القصيدة، يحدث انقلابا في التلقي حيث يصرف الذهن عما يمكن أن ينصرف اليه من هروب الذات من المكان واختيار العزلة والانطواء حين يصل الجسد بالتراب: عادته الأصلية، وينفذ به الى الأغرار للارتواء من ينابيع البداية: البئر. وبغض النظر عن الايحاءات الجنسية لفعل الاختراق هذا فإن وجود البئر في هذه الصحراء بشير خير وبركة، يقوي هذا التنافذ العميق بين النص – المقدس وبين القصيدة تنافذ تنصهر في ثناياه تفاصيل أحداث القصة الأصلية. ولنتبين حدود هذا التنافذ، نستحضر التقابل الضمني بين ابراهيم / النبي: خليل الله، وابراهيم المضحي: خليل الشاعر. وتوجه جدلية العلاقات بين العناصر البنائية في القصيدة حركتان أساسيتان: الحركة الأولى تتمثل في صورة ابراهيم قبل التضحية، والحركة الثانية صورته بعد التضحية، وما يترتب عن ذلك من تحول في الرؤى الجمعية التي تتحول من اللامبالاة والانكار الى الدهشة والانبهار. فحتى التضحية لم تخلصها من الأوهام، بل أودت بها الى وعي زائف يلوذ باللاعقل: الجنون. ولعل تفاصيل هذه القصة قمينة باستحضار مناظراتها في النص – المقدس: المسيح – ابراهيم الخليل، غير أنها لا تلبث حتى تنفصل لما توثق أواصرها بالتجربة الحياتية.
إن الحركة الأولى، تنبني على أساس صيغ الرجاء والتمني: "لو كان لي.." التي تتكرر خمس مرات متصلة في كل مرة بالتضحية والفداء:
1- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء من جديد"           ص 203
2- "لو كان لي،
لو كان أن أموت أن أعيش من جديد"        ص 204
3- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء
لو كان لي البقاء                                ص 204 – 205
وتدفعنا هذ الواقعة النصية، الى القول بأن هذ الحركة تمثل إرادة الفعل، كما أن الذات، في غمرتها تخمن وتناظر بين حجم الفعل وما يترتب عنه. وبما أن الفعل أسمى يبلغ حد نكران الذات، وممارسة فعل الفداء لتطهير الآخر، الذي لم تلق منه الذات سوى الجحود والنكران، فإن آمال التغيير يجب أن تمس الجذور وتحلل السائد من أصوله ولعل هذا هو فعل "طمر العظام" الذي أعلنت الذات في القصيدة السابقة عن عجزها على ممارسته؛ وها هي الآن، تقوم به، ولكن من خلال ما يمكن أن نعتبره معادلا موضوعيا: ابراهيم. وهذا يفسر لنا. هذا التوق العارم للهدم البناء الذي يبلغ منتهاه، فالمضحي لا يرضى بما دون النجوم كم قال شاعر العربية أبوالطيب:
أذا غامرت في ترف مروم
                                فلا تقنع بما دون النجوم
لهذا وجدناه يأمل في قلب الدورة الفصلية:
"ترى يحول الغدير سيره كأن
تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،        ص 203
وتحويل المعجزات من إطارها الغيبي الى الاطار الانساني:
ويطلع النبات في الحجر؟
.وليس هذا المطلب بأعز من طهر الذات، وتوقها الى اختراق الموت: اللحظة العبورية لقلب المدارات وتحويل الاتجاهات بين الأرض والسماء:
 
وهذا هو الفارق الأساسي بين تضحية ابراهيم بابنه استجابة لأمر الله، وبين تضحية ابراهيم بنفسه في القصيدة لمحو الظلم. وعلى هذا النحو، لا تحتفظ الذات من الآمال إلا بما يسعد الانسانية، وينشر المحبة والعدل بين الناس. ولا تنفك القصيدة تتخلص من النص – المقدس لترتمي في أحضانه مرة ثانية، متماهية مع المسيح مخلص البشرية، الذي اقترن في هذا التشكيل باستحضار الأسطورة لعلها تسعف في بناء أسس العدالة المنشودة: يوليس – أوديب… وكأن القاريء مدعو الى إعادة النظر في معايير تكوين واستواء القيم بما في ذلك مفهوم الخطيئة ومفهوم الرؤية والبصر.
أما الحركة الثانية، فانتقال خاطف من القول الى الفعل وبناء متكامل لفضاء إثبات الذات، وتأكيد حضورها المتشظي، حيث يوضع ابراهيم في واجهة التصدي للأعداء ويبلي بلاء حسنا، في الوقت الذي تتراجع فيه الجموع، ويكون استشهاده عربونا لسمو نفسه وغنى دواخله. يا لها من مفارقة مدهشة !! هذا الذي ما عرف تقديرا من قومه يهب نفسه للذوذ عنهم، وتلك مفارقة، لا ريب شائعة في الثقافة الشعرية العربية: وما تجربة الشنفرى المفرد، وعنترة المستعبد ببعيدة ولا مجهولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق