الأحد، 28 ديسمبر 2014

تحليل نص شعري قصيدة: سربروس في بابل [بدر شاكر السياب]

حليل نص شعري قصيدة: سربروس في بابل [بدر شاكر السياب]
تأطير النص: دلالة العنوان:
*- الإعراب: العنوان : جملة اسمية مؤتلفة من مبتدأ (سربروس) وخبر مقدر ب" استقر" من شبه الجملة "في بابل"
*- الدلالة: 1- سربروس: هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية
2- بابل: مدينة ببلاد الرافدين/ العراق، وهي رمز لحضارة ضاربة في عمق التاريخ البشري
3- سؤال: ما الجامع بين سربروس وبابل؟ لقد انتقى الشاعر السياب هذه العنوان بعناية، وإذا نحن شئنا الدقة أكثر نقول: سربروس رمز أسطوري يوناني متوحش سفاك للدم؛ أي زمر يجسد الغرب الأوربي. وبابل مدينة شرقية " متحضرة" هادئة. فما الذي قد يحدث إدا حل سفاك بأرض تعيش الخصب والرخاء؛ إنه الدمار والخراب، ولربما في هذا العنوان إشارة إلى الخراب الذي شهده العالم العربي ما بين اتفاقية سايكس - بيكو المشؤومة، والنكبة الفلسطينية، إنه دمار بكل المقاييس، خصوصا بعد زرع الكيان الصهيوني في خاصرة الجسم العربي المترهل. هذا الكيان الدموي يشبه في سلوكه وعدوانيته سربروس الإغريقي الذي دمر الأخضر واليابس.
نعم إن لحدثي اتفاقية سايكس- بيكو والنكبة دورا حاسما في انفجار ثورة عارمة على الجمود الذي أصاب الأمة العربية فكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأدبيا، والشاعر العربي باعتباره ابن بيئته ولسان وطنه، كان ملزما هو كذلك بالثورة، وقد توفق في ذلك حينما ابتدع شكلا تعبيريا جديدا أحله محل النموذج الجامد للقصيدة العربية التي ازدادت جمودا وتحجرا بقيود الخليل وسفاهة الأغراض المطروقة.
وتزعم حركة الانشقاق الشعري كوكبة من شعراء الرافدين(السياب/البياتي/ الملائكة/الحيدري) والشام (أدونيس/ الخال/ خليل حاوي/قباني/ طوقان/ توفيق زياد)والكنانة (عبد الصبور/ عبد المعطي حجازي ) انضم إليهم المغاربة(بنيس/ السرغيني/ ع.الله راجع/ المجاطي) في وقت متأخر بعض الشيء .
والحقيقة أن التمرد على العمود الجامد كان مبررا كما أسلفنا، بل إنه كان ضرورة أدبية يقتضيها العصر، إذ لا يعقل أن يظل الشاعر متسولا على أعتاب أسياده، أو حالما هاربا من قساوة الواقع باحثا عن الهدوء في الطبيعة ...فالشاعر أضحى مطالبا أكثر من أي وقت مضى، بإعلان موقف مشرف، موقف رافض للقهر والذلة ومتحديا لكل الصعاب.
والقصيدة التي بين أيدينا (سربروس في بابل) خير ما يمكن أن يجسد على التجديد ومعه القدرة على الصمود والتحدي، فأين يكمن هذا التجديد؟ وما الوسائل التعبيرية المعتمدة فيها ؟ وإلى أي حد مثلت قصيدة الرؤيا ؟
بعودتنا إلى القصيدة ، ووقوفنا عند معانيها يمكن القول: يري السياب أن واقع مدينته " بابل" واقع ملؤه الدمار والخراب والبؤس والحزن ؛ واقع تسبب فيه ذاك الغريب القادم من الغرب "سربروس" الذي وسع البلاد خرابا وسفكا للدماء ،بل إن سربروس؛ هذا؛ رمز الشر والفناء؛ يتمادى إلى ما هو أخفى؛ فيبطش بعشتار ؛ رمز الخصب؛ وينزع "تموز " من بين يديها ومن تحت الثرى، ليتفنن في تجديد موته ونهش عظامه، إلا أن تموز الذي هو؛ رمز العطاء والحياة؛ وإلـه الخصب والخلود، لا بد أن يحيى من جديد، وهذا ما يتمناه الشاعر فعودته من جديد ستعطي قوة للحياة؛ قوة يمكن أن تقاوم الأعداء .
لقد خلق الشعار في هذه القصيدة صراعا ملحميا بين قوى الخير والحياة، وقوى الشر والدمار، وتوسل لذات الغاية بلغة بسيطة في معانيها عميقة في دلالاتها، ف: سربروس؛ وما خلفه من مشاهد الفنار والخراب يجسد حقل الدمار والرعب، بينما شكل اتحاد قوتي" عشتار " و"تموز" حقلا للتحدي والحياة بعد الفناء، وهذه هي الغاية التي يرومها الشاعر ويتمناها.. الصمود يوصل إلى النصر.
إلا أن هذه الأماني والغايات لم يكن للشكل القديم أن يستوعبها؛ لذلك عمد الشاعر ؛ لتحقيق دفقته الشعورية إلى؛ تكسير بحور الخليل ابن أحمد، واستبدال البيت الشعري ذي الشطرين المتناظرين والتفعيلات المحددة ، إلى أسطر شعرية متحررة من قيود الشكل وعدد التفعيلات التي تحدد بحسب رغبة الشاعر ودفقته الشعورية، دفقة قد يسعها سطر [س:30- أكانت الحقول تزهر؟]، وقد تمتد إلى الجملة الشعرية عند قصور السطر عن استيعابها ومثال ذلك؛ قوله[[28-29](أكانت الحياه - أحبَّ أن تُعاش؛ والصغار آمنين؟)]
ففي السطر(30) انتهى المعنى وكمل؛ أما في السطر (2icon_wink.gif لم يمتلئ المعنى، مما استدعى سطرا آخر (29) على شكل تساؤل نظرا لهيجان نفس الشاعر الذي ضخم الدفقة الشعورية فاستدعت أكثر من سطر ؛ ليخرج لواعج الكلام الدفين.
كما أن هناك؛ في بعض الأحيان؛ أسطرا شعرية قصيرة ؛ نحوَ قول الشاعر: ( تموزنا الطعين.)إنها؛ وغيرها في هذه القصيدة؛ جملٌ استدعى وجودها نفسا شعريا قصيرا فجاءت قصيرة،وتهيمن على النص ظواهر إيقاعية؛ كالتوازي: الوارد في الأسطر:(30/31/32) وهو تواز عمودي تام في السطرين الأولين مع تواز نسبي بينهما وبين السطر الثالث .
أما التكرار فحاضر بقوة؛ ومن أمثلته تكرار بعض الأسطر على شكل لازمة (ليعوِ سربروس في الدروب) وتكرار بعض الكلمات، والأساليب (أكانت...؟) مما أضفى على القصيدة جمالية موسيقية؛ زادها الإدغام الكثيف زخما دالا على حالة التوتر الذي أفرزها مشهد الدمار.
وبما أن القصيدة من شعر تجديد الرؤيا؛ فإن الشاعر السياب بناها على تفعيلة واحدة [//0//0] جاءت تامة تارة وناقصة[/0//0]تارة أخرى كما عمد إلى تنويع القوافي،فجاءت متتابعة تارة (وشدقه الرهيب موجتان من مدى/ تخبئ الردى)، وطورا؛ مرسلة (ليعو سربروس في الدروب/ في بابل الحزينة المهدمهْ).
من هنا يتبين لنا التمثيل الواضح للحداثة على مستوى الإيقاع .فهل سينسحب ذلك أيضا على مستوى الصورة الشعرية؟
مما لا شك فيه أن الصورة الشعرية عند شعراء تجديد الرؤيا، اتسمت بالكثافة والغموض وتوظيف الأسطورة والزمر بقوة؛ إلا أن ذلك لا يعني قصورهم عن إبداع صور استعارية في منتهى الجودة.
فقد استهل الشاعر قصيدته باستعارة :" ليعوِ سربروس في الدروب" ف: سربروس هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية ، ومن المعلوم أن الصوت الذي يصدر عن الكلب هو النباح في حين أن الصوت الذي يصدر عن الذئب هو العواء لذا قد يبدو أن استعارة العواء للكلب ( الأسطورة). إن استعارة العواء للكلب أمر أبلغ وأشد تعبيرا عن أسطورة سربروس التي توحي بجو مرعب؛ لأن سربروس ليس كلبا عاديا، بل بثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه باستمرار، وينفث السم من أحشائه وله ذيل تنين ، وتكسو ظهره وشعر رأسه ثعابين مرعبة، ومن ثم يكون الهدف من استعمال هذه الاستعارة المبالغة والتأكيد على قوة صراخ سربروس .
إن قوة سربروس الخارقة ولدت معاناة للأهالي؛ معاناة تتجلى أكثر في الاستعارة الواردة في البيت الثاني حيث يشبه الشاعر بابل، بالمرأة الحزينة المهدمة ؛ لأنه كما جرت العادة؛ فحزن المرأة ، باعتبارها كائنا هشا وحساما يثير شفقة الآخرين وتعاطفهم.
إن سربروس ليست مصدر معاناة بابل وحدها بل إنها مصدر معاناة لسكانها أيضا. يدل على ذلك الاستعارات الواردة في الأبيات (3)،(4)، و(5) . ذلك أن سربروس ذئب لا يكتفي بالعواء فقط، بل يتعداه إلى فعل الإبادة والقتل، فقوة سربروس وشدته باعتباره رمزا للشقاء والموت جعلت الشاعر يؤسس عالما من الاستعارات التي تبين درجة المعاناة والحزن التي تعيشها بابل، فإذا كان الذئب يفترس صيده بعد أن يقضي عليه، فإن سربروس يمارس فعل الإبادة والافتراس معا في آن واحد.وقد استعار الشاعر الأنياب للدلالة على ذلك الفعل البشع الذي يمارسه الموت على أكثر المخلوقات البشرية ضعفا (الصغار). تبين هذه الاستعارة كيف تؤسس الاستعارة للنص الشعري ، ذلك أن استعارة ( سربروس ذئب) تستلزم استعارة ( الصغار /الناس فرائس).
بعد أن يصف الشاعر جو الحزن الموت الذي يخيم على موطنه ( بابل)، ينتقل إلى مستوى جديد يصور فيه سربروس باعتباره مصدرا ومنبعا لكل علامات الشقاء ويبدو ذلك جليا من خلال استعارة : عيناه نيزكان في الظلام ، حيث يشبه الشاعر عينا سربروس بالنيزك المضيء في الظلام ، وهو ما يزيد في الإلحاح على ذلك الجو الكئيب الذي يسببه انتشار الموت والشقاء في بابل.
إن الجو الرهيب الذي ولده سربروس، أوحى للشاعر السياب بتوظيف جمل فعليه قصيرة أفعالها – في الغالب – مضارعة من أجل إضفاء نوع من الدينامية على المشهد، دينامية تعلو تارة وتحبو أخرى مؤسسة منحنيات نفسية شديدة الارتداد.
أما الأساليب فمعظمها خبرية لأنها تصف مشاهد الدمار والرعب الذي خلّفه سربروس، إلا أن التوسل بالجمل الإنشائية كان مثاليا ومناسبا لمقامه خصوصا تلك التساؤلات الوجودية الكبيرة التي استلزمتها حالة المدينة بعد زيارة سربروس .
ومسك الختام ما أورده السياب في البدء وفي المنتهى؛ " ليعو سربروس": أمر بمعنى التحدي؛ تحدي الدمار والفناء- سيولد الضياء من رحم ينز بالدماء: تفاؤل بالمستقبل، وبالقدرة على الانبعاث من تحت الدمار.

هناك 4 تعليقات: