الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

تكسير البنية : نص نظري : قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة*****تحليل مترابط*****

يعتبر الشعر الحر أو شعر التفعيلة شهادة ميلاد لشعر عربي جديد انتفض على قيود الماضي وقواعده الصارمة وحاول تشكيل وجدان عربي فتي بخلق أصوات شعرية سجلت مجموعة من الابدالات والتغيرات لحقت ببنيات ومستويات التشكيل اللغوي والفني والشكلي للقصيدة العربية. وكان الهاجس هو خلق قصيدة بمعايير مغايرة للموروث ومتجددة على مستوى الإيقاع والتركيب والصورة واللغة والدلالة. أي أن القصيدة العربية ولجت مرحلة متطورة تغيرت فيها عناصرها الموضوعية ومعالمها الشكلية فصارت تشغل الشعراء والنقاد على السواء، فانطلقت الدراسات النقدية التي حملت على عاتقها مهمة وضع الأسس النظرية الواضحة لهذا المولود الشعري الجديد، عبر فهم منطلقاته والكشف عن طبيعة ومتغيراته والتعريف بجمالياته وحلمه بالتغير والإبداع . وقد تميزت هذه الدراسات بالرصانة الموضوعية وبتشغيل آليات منهجية حديثة استمدتها من الانفتاح على المناهج الغربية التي بلورت مناهج اشتغالها وراكمت تجربة ناجحة. استثمرها النقاد العرب فخصصوا لتكسير البينة حيزاً هاما في كتاباتهم التي أنجزوا من خلالها تراكما نقديا نوعيا بمفاهيمه ومصطلحاته وتحاليله. فتعددت الأصوات النقدية في مصر كمحمد النويهي وغالي شكري وفي لبنان وسوريا كأدونيس وخلدة سعيد وفي المغرب كأحمد المجاطي ومحمد بنيس ... ويعد الناقد عزالدين إسماعيل * 1925-2007* أحد الأقلام الوازنة التي ساهمت بفعاليته في إغناء الساحة النقدية والفكرية العربية بكتابات رائدة نذكر من بينها : < الأسس الجمالية في النقد العربي > و < المكونات الأولى للثقافة العربية > . وكتابة الشهير < الشعر العربي المعاصر > الذي خصصه لتجربة الشعر الجديد حيث جمع فيه بين تاريخيته وبين قضاياه وجوهرة، وبين معناه ومنباه ، والنص موضوع المقالة المدروسة مقتطف منه ، فناهي مقاصده وأهدافه وهل نجح في تحقيقها ؟
ذلك ما سنكتشفه بتفصيل من خلال مقارنتنا لهذا النص النظري الذي يحمل عنوان << قضايا الاطار الموسيقي الجديد للقصيدة >> وهو عنوان دال على المضمون المحوري للنص، حيث يعتبر الإيقاع الموسيقي بإعتباره مكونا أساسياً في القصيدة الجديدة، تعرض لتغيير جذري في مرحلة تكسير البنية. وقد اعتبر الناقد هذا الأمر قضية لأنها أثارت الكثير من النقاش والجدل ، بين المهتمين وشغلت الفكر والتنظير واحتاجت للكثير من الإجتهاد المنهجي والأنساق الفكرية والمفاهيمه. والواضح أن العنوان يركز على أهمية الجانب الموسيقي في القصيدة خاصة مع المنظومة الايقاعية الجديدة القائمة على المزق وتجاوز الرتابة وإحداث زجة حقيقية في بنية القصيدة العربية الحديثة. وهكذا يتضح لنا أننا أمام مقالة أدبية تحاول تقريبنا من النغيرات الطارئة على موسيقية القصيدة العربية . فماهي هذه التغيرات إن المقالة تضع أمام القارئ المراحل الأساسية لتطور موسيقى الشعر العربي وجمالياتها الخاصة . اول مرحلة هي مرحلة البيت الشعري الذي يتكون من الشطرين المتوازيين وقافية وروي موحدين. مما يعني نظاماً خارجياً صارماً وقوانين ملتزمة ومفروضة من الخارج  مرحلة السطر الشعري وهو نتيجة لتفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي بحيث لم يستبق منها سوى التفعيلة التي ترد مفردة في السطر أو مكررة في أعداد غير منضبطة مرجلة الجملة الشعرية : هي صورة جديدة في التشكيل الموسيقي وهي بنية موسيقية أكبر من السطر ، تتسم بقدرتها على استجاب الدفقة الشعورية الممتدة ، حيث إن السطر الشعري لا يستجيب إلا للدفقة القصيرة والمتوسطة. ويرى الناقد أن هذا التشكيل الموسيقي الجديد يمكن من جعل الصورة التعبيرية تتحرك مع الشعور في مرونة وطواعية وتمكن من خلق انسجام بين طبيعة الشعور وطبيعة التشكيل الموسيقي عبر دفقات شعورية طويلة. بالنظر إلى محتويات المقالة وأفكارها نجد أنها تعالج قضية أدبية تعتبر جانبا مركزياً من القول الشعري وهي البنية الإيقاعية والتي إنفلتت من التقليد وكسرت الجاهز والمؤلوف وانطلقت نحو التجديد والتطوير. الذي رصده الناقد بدءاً من البيت الشعري بضوابطه وسماته الجمالية مروراً بالسطر الشعري الذي فتح أفاقاً موسيقية جديدة أمام الشعراء الجدد ووصولاً إلى الجملة الشعرية التي تجاوزت البيت والسطر وأبانت عن قدرتها لإستعاب أكثر الدفقات التعبيرية امتداداً وأكثر التجارب الشعرية عنها. ونفى الناقد أن يكون الشعر الجديد خارقاً للنظام ومسبباً للفوضى حيث أبرز أن النظام الموسيقي الجديد له ضوابطه وقواعده وسمات انتظامه التي تنبع من داخله . ولا تحول دون تدفق مشاعره بل على العكس من ذلك تتيح للشاعر إمكانات متعددة ومتغيرة . تستطيع تحقيق التساوي الجمالي بين المعنى والمبنى. بين الشعور وصورة التعبير. وقد كانت * التفعيلة * هي الكلمة السحرية ، فقد شكلت العنصر المشترك في الموسيقية العربية قديمها وحديثها. وإذا كان الناقد يدافع بوضوح عن الاختيار الإيقاعي الجديد. فهو يمثل صوت التمرد والرفض لبنية موسيقية ساكنة وصارمة ومحددة سلفاً ومعروضة من الخارج على المبدع ما يقيد طاقته الابداعية وعدم فعاليتها. وقد عزز عزالدين إسماعيل وجهة  نظره بعدة مفاهيمية واصطلاحية نختار من بينها ما ينتمي إلى العروض القديم وما يدل على الموسيقى الجديدة ففي الحقل الأول نجد : البيت الشعري- الشطرين المتوازيين - قافية مطردة- القيم الشكلية التقليدية- تشكيل موسيقي جديد- بنية موسيقية مكتفية بذاتها... موحدة موازية ومساوية للدفقة. من خلال هدا التراكم يبدو واضحاً الحضور الوازن للحقل الثاني لان الناقد يؤسس مقالته عليه ويتبنى تغيراته التي يعرف بها وبتأثيراتها الإيجابية على موسيقى القصيدة. وتظهر علاقة التضاد بين الطرفين . فالأول يكرس الرتاية والتكرار والثبات. ويعرض قواعد تثقل كاهل المبدع وتعرقل ابداعه. بينما يتيح الثاني فضاءات رحبة للإبداع بحيوية ومرونة وقدرته على الإنصات لنبض الشاعر والانضباط له طولا وقصراً. وقد تعددت المرجعيات التي نهل منها الناقد والخلفيات الفكرية التي يستند إليها. فقد إمتد على الجانب التاريخي حينما تتبع التطور الحاصل في البنية الموسيقية للقصيدة العربية عبر مراحلها المختلفة، البيت الشعري السطر الشعري - الجملة الشعرية. كما لا يخفى إهتمامه بعلم النفس الذي ربطه بالأدب معتبراً أن التعبير منك للشعور وليس العكس + ومتحدثاً عن امتداد الدفقة الشعورة طبيعة الشعور الذي تتحرك به النفس... كل هذا يبين لنا أن الناقد يؤمن بالعلاقة الوثيقة بين الحالة النفسية المبدع وبين التشكيل الموسيقي الذي يختاره. وغني عن البيان أن للناقد معرفة شاملة بالشعر العربي وقواعده ومفاهيمه ومتغيراته. فنقول أن الإطار المرجعي المعتمد في النص غني ومتعدد ومنفتح بالتوازي على الثقافتين العربية الأصيلة شعرها ونقدها، والغربية الحديثة بمناهجها وآليات بحثها.
وقد صاغ الناقد تصوراته النقدية في قالب منهجي متماسك اعتمد فيه طريقة استنباطه انتقل فيها من العام نحو الخاص، حيث قدم بمدخل امتد طابعاً عمومياً سرد فيه بإيجاز مراحل تطور الايقاع الموسيقي للقصيدة العربية ، مخبراً بعد ذلك بالقضية التي سيعرض لها بتفصيل . بعد ذلك توقف للتعريف والتفصيل بكل مرحلة على حدة ، مع إبراز خصوصياتها وتطوراتها وجمالياتها وقدرتها على التجاوز والتجديد لينهي في الأخر إلى التأكيد على أهمية الجملة الشعرية باعتبارها مرحلة تجسد أقصى تجليات التجديد والتغير.
وهكذا يبدو أن عزالدين إسماعيل قد نظم أفكاره ورتبها بشكل متدرج يؤكد طبيعة التطور الذي عرفته البنية الإيقاعية للقصيدة العربي ودلك عبر طرح دقيق ومفصل ومباشر يضع المعطيات بادية الوضوح أمام القارئ والمهتم. وقد كانت أساليب التفسير بأنواعها المختلفة ألية أخرى تؤكد صرامة الطرح النظري للناقد وموضوعيته إذ ساق مجموعة من التعريفات المتشاملة للمفاهيم التي اراد شرحها وتقديمها كالبيت الشعري والسطر والجملة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازنين عروضياً الذي ينتهي بقافية مطردة في الأبيات الأخرى . السطر الشعري تركيبية موسيقية للكلام . لا ترتبط بالشكل المحدد للبيت الشعري ، ولا بأي شكل خارجي ثابت * الجملة الشعرية فهي صورة متطورة عن صورة السطر الشعري وهي بنية موسيقية أكبر من السطر وإن ظلت محتفظة بكل خصائصه.
وسرد بعض الأحداث التي يسلط من خلالها الضوء على مراحل تطور البنية الإيقاعية للقصيدة العربية ، ليقول: كل من يتتبع أشكال التجديد والتطور في موسيقى شعرنا المعاصر سيستطيع أن يحدد ثلاث مراحل أساسية. أما المقارنة فاستعرض الناقد من خلالها مراحل التطور التي تجاوزت فيها كل واحدة الأخرى فقد جاء السطر الشعري متجاوزاً للبيت الشعري الذي إستنفد امكانياته وطاقاته الإيقاعية لأنه نظام خارجي ثابت مفروض على الشاعر من خلال وحدة الروي والقافية التي اعتبرها قفلا. أما السطر الشعري فنظام موسيقي أساسه التفعيلة التي يمكنها أن تحمل في السطر الواحد إلى تسع تفعيلات. مما يحد أيضاً من إمكانية إستعابه للدفقة الشعورية الطويلة والممتدة. فكان البديل هو الجملة الشعرية لأانها بنية غير محدودة الطزل وبنيتها منفتحة ، وقد تمتد الى خمسة أسطر أو أكثر، ويمكنها استيعاب التعبير الممتد والدفقات الشعورية المتنوعة.
إذاً النتيجة هي أن الناقد نجح من خلال هذه التلوينات التفسيرية التي تبلغ رؤيته النقدية بجلاء حيث فصل الحديث عن موضوع دراسته التي رام من خلالها التعريف والتفسير والإقناع، فعرفت بالظواهر الإيقاعية ووصفها وقارن بينها واستدعى بعض الأحداث التي تضعها في إطارها وتعافيهها الزمني مما جعل أمر استيعابها وتمثلها متحققاً لدى القارئ.
وفي الأخير نشير إلى أن مقصدية عزالدين إسماعيل قد تحققت لأنه قدم لنا طبقاً نقدياً مقنعاً بسط لنا من خلاله بوضوح وبساطة أهم التغيرات والتحولات التي مست البنية الإيقاعية للقصيدة العربية عبر شرح مفاهيم جديدة شكلت إبدالات للقواعد الموسيقية الصارمة المتوازنة عبر الأجيال كما أوضح التحولات المتسارعة التي عرفتها بنية التشكيل الموسيقي في القصيدة وتخطي كل مرحلة للمرحلة التي سبقتها في رحلة البحث عن الأفضل والأكثر انسجاماً وتلاؤماً مع لحظة الإبداع وتدفق الإحساس الفني والفكري للشاعر. وكان بديهياً أن يتوسل الناقد بطرائق تعبير ملائمة وقادرة على تحقيق المصداقية والقوة الإقناعية فتماسك المنهج وصرامته وتعدد أساليب التفسير والخطة الحجاجية المحكمة وتقريرية اللغة ووحدة الموضوع والإنتظام والإتساق بين الأفكار والجمل والإطار المرجعي الثري كلها أدوات شكلت وسيطاً ناجحاً عبر الناقد من خلاله إلى عقول المتلقين ليقاسمهم إيمانه بالتجديد واغياره للتمرد والخرق والتجاوز عبر تكسير جزء من أسس الموسيقية الشعرية التقليدية. فجاءت مقالته معلنة لانتمائها إلى الكتابة النقدية الحديثة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق