الثلاثاء، 7 أكتوبر 2014

الهمزية في مدح خير البرية للبوصيري- جدع مشترك ادب-


لتلاميذ الجذع المشترك

نصوص المجزوءة الأولى في الدورة الثانية: الشعر العمودي
1- المدح
الهمزية في مدح خير البرية للبوصيري

مدخل مفاهيمي
مفهوم الشعر
الشعر لغة الشعور والإحساس والانفعال بواقع ما والتفاعل الخاص معه، تفاعل يتجاوز السطح والمألوف العام ويتغلغل إلى أعماق الواقع يستكنه أسراره، ويتابع تداعياته في النفس والمخيلة، ويصنع منه عوالم جميلة يسافر عبرها إلى مناطق بكر غير مطروقة تتسلل إلى المتلقي فتحبسه في محرابها متأملا منتشيا مأخوذا بسحرها وتوهجها، واصطلاحا فن قولي جميل يتضمن كل ما قلناه آنفا، وهو وإن تعددت تعريفاته، فإنها تجمع كلها على أنه فن أدبي يقوم على اللغة الموحية والصورة المعبرة والتركيب الجميل والإيقاع المؤثر والعاطفة المتدفقة والرؤية العميقة المتأصلة.
وقد مر الشعر العربي بتجارب متعددة حدثت خلالها تطورت عميقة مست بنية الشعر العربي قديمه وحديثه، ويمكن إجمالا تمييز تجربتين فاصلتين هما: الشعر العمودي وشعر التفعيلة.
مفهوم الشعر العمودي
الشعر العمودي هو الشعر المحافظ على معيارية القصيدة القديمة، حيث تتوالى الأبيات في خيط عمودي سيمتري (تناظري)، كل بيت ينتظم شطرين، وكل شطر يتألف من تفعيلات محددة تتكرر في كل أبيات القصيدة، وتنتمي إلى نظام إيقاعي يدعى البحر الشعري، وتخضع التفاعيل لتغييرات إيقاعية مضبوطة بضوابط عروضية لا يمكن اختراقها، وينتهي كل بيت في القصيدة بقافية موحدة وروي واحد يلتزم في سائر الأبيات.
تعالج القصيدة العمودية موضوعات متعددة ، أو موضوعا واحدا تبنى شبكاته الدلالية وتؤلف بنيته اللفظية وفق تصور عمود الشعر الذي حدد ملامح القصيدة النموذجية شكلا ومحتوى، وهذه الملامح كما وردت عند المرزوقي في شرح حماسة أبي تمام هي: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
مرتكزات القصيدة العمودية
- البيت الشعري: وحدة مستقلة في القصيدة العمودية تربطها بباقي أجزاء القصيدة روابط عامة، يتألف من عدد محدود من التفعيلات على أحد أوزان الخليل ( الطويل ، البسيط ، الكامل ، الوافر...)، وينقسم إلى صدر وعجز ، وينتهي بقافية.
- القافية: وحد إيقاعية تتشكل من حرف متحرك أو أكثر بين ساكنين في آخر البيت والمتحرك الذي قبلهما، وقد تكون كلمة أو كلمتين أو جزءا من كلمة.
- الروي: آخر حرف صحيح في البيت ، عليه تبنى القصيدة ، وتسمى به ، فيقال لامية أو نونية أو ...، ويتكرؤر في سائر الأبيات.
- الصورة الشعرية: التصوير مرتبط بخصوصية التجربة الشعرية على مستوى الفكرة والعاطفة والخيال وعناصره، وغالبا ما تكون الصورة في الشعر العمودي ملتقطة من الواقع وذات بعد حسي بياني يروم توضيح الفكرة وتقوية المعنى وتقريب الانفعال بالواقع إلى المتلقي.
- اللغة الشعرية: تسعى اللغة في القصيدة العمودية إلى تحقيق وظيفتين: تواصلية وجمالية، وتتسم بالتكثيف والإيجازوالتلميح والإشارة بدل التصريح والإخبار، والفخامة والتماسك
- موضوعات الشعر العمودي: عالج الشعر العمودي معظم الموضوعات التي شغلت بال الشعراء، وقد ارتبط أكثر بمجموعة من الموضوعات التي سميت بأغراض الشعر كالمدح والهجاء والوصف والغزل والفخر والرثاء والحماسة، وكلها تنتمي إلى الشعر الغنائي.
تقديم النص
مفهوم المدح
المدح لغة الثناء والإطراء والتمجيد، واصطلاحا الغرض الشعري المفصح عن إعجاب الشاعر بالممدوح بسبب مزايا معينة يتصف بها ، ومن أبرز صفات المدح التي تغنى بها الشعراء: الكرم والشجاعة والوفاء والمروءة والحلم والعدل والقوة وشرف الأصل (الحسب) وجميل الفعال، وغالبها صفات معنوية نبيلة تدل على كمال الرجولة.
أنواع المدح
- المدح الصادر عن إعجاب حقيقي وعاطفة صادقة ، ويدخل ضمن هذا الغرض المدح الديني كمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومدح القيم النبيلة المجسدة في بعض الشخصيات الفذة .
- المدح التكسبي المتخذ مطية للتقرب إلى الخلفاء والأمراء والملوك والقواد والأثرياء لنيل رضاهم والحصول على عطاياهم.
تطور قصيدة المدح في الشعر العربي وخصائصها
- المدح غرض عريق في تاريخ الشعر العربي، عرف تطورات جمة منذ العصر الجاهلي فالإسلامي فالأموي فالعباسي
- ضمت قصيدة المدح كل الخصائص الجمالية الإيقاعية والتركيبية والدلالية التي يقررها التصور المعياري للشعر العمودي، ومن بين هذه الخصائص :
* التكثيف في المعنى والدقة في بناء الصورة وضبط العلاقة بين طرفيها ، وتوليد المعاني الجديدة والطريفة
* الاحتفال بموسيقى النص وتضخيم حضورها وتأثيرها
* جزالة الألفاظ وقوة جرسها ونقاوتها وفصاحتها
* شرف المعنى وسموه ومتانة التركيب وفصاحته
* المبالغة في وصف الممدوح بأوصاف مثالية
سياق النص
النص من قصيدة للبوصيري يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعى الهمزية في مدح خير البرية نسبة إلى رويها، وهو مدح نابع عن حب عميق وإخلاص منقطع النظير وفعل يرجى من ورائه الخير العميم لأنه مدح لخير الخلق وبيان للخير الذي جاء به وحل معه، وهو أيضا بعض اعتراف وإقرار بالجميل ولحظة بوح صادقة وانخراط في تبتل وخشوع كبير ، ورحلة إلى التطهير والصفاء اتخذت لها الصوفية العربية في العصر المملوكي المدح النبوي مطية ذلولا يحتمى بها من فساد الزمان وأصحابه، وهجمة الأعداء على ديار الإسلام ، وكثرة الهموم والأسقام، وهو للإمام البوصيري المغربي الأصل المصري النشأة، ولد سنة 608هـ ، وتوفي سنة 696 ، عاش متصوفا شاذليا زاهدا في الدنيا.
ملاحظة النص
يفصح عناوان النص عن كون القصيدة مدحا، ويصرح تصريحا حاسما أن المدح نابع من شعور صادق فياض، وإيمان عميق قوي بكل النفحات العظمى والخلال المثلى والخيرية المطلقة لخير رجل عرفته الأرض ، معلنا بذلك أن النص من المديح الديني الذي يجد صداه في كل نفس مؤمنة، وتتقرب به إلى بارئها كل نسمة خيرة وفكرة نيرة تريد أن تنهل من الفضل العميم والخير الجسيم والخلق القويم، كما يشي العنوان عبر لفظته الأواى أن النص شعري عمودي رويه الهمزة، وفي ذلك ما فيه من إيحاء بما يختزنه النص من قيم القصيدة العمودية وملامحها الدلاليو والجمالية، وإذا علمنا أن البوصيري غارق في صوفيته وأحواله الروحية افترضنا أن في النص غير قليل من حرارة الانفعال وعمق التمثل وصدق الشعور وجمال التعبير.
فهم النص
يتركب النص من ثلاث وحدات دلالية أساسية هي :
- إشارة النص إلى منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء، وإلى علامات مولده وبشائر ظهوره وتبشير الرسل ببعثته.
- عرض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وسجاياه ومنها تظليل الغمام له في سفره ، وإخبار الذراع المسمومة إياه بما فيها من شر، والتقى والزهد والحياء والخلق الكريم المتزن الوقور في التبسم والمشي والإغفاء، وحسن الصورة، والرحمة والعزم والحزم والعصمة والبأس والصبر ، لا تستخفه الفرحة ولا يستفزه الغضب، ونصاعة القلب وطهارة الثياب والعفة والحلم والعفو والعلم والجود اللامتناهي وغيره مما يخرج عن مألوف الناس ومستطاعهم.
- اعتراف الشاعر بعجزه عن استقصاء سجايا النبي صلى الله عليه وسلم وحصرصفاته في شعره لاستعصائها على التتبع والتقصي.
تحليل النص
- إذا أمعنا النظر في معاني المدح في النص وجدنا أن البوصيري يصدر في مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم عن ذات محبة مخلصة متفانية في تعلقها، صادقة أبلغ الصدق في مدحها ، بعبدة كل البعد عن دواعي التكسب والتملق والمجاملة، ومن ثم كان المدح في النص خلاصة تجربة إيمانية متجذرة ومتجددة ، لذلك مجده الشاعر تمجيدا لايسامى، وأسبغ عليه صفات مستخلصة من الطبيعة النبوية بما فيها من طهر وقدسية وعصمة وكمال إنسان ومنة إلهية معجزة لأفضل رسله وأكرم الخلق عنده . وقد توزعت معاني المدح بين الحقل الوصفي الأخلاقي وحقل السيرة المرتبط ببعض المعجزات الحاصلة قبل مولده وبعده، واستثمرت في الحقلين مواد معجمية ذات إحالات مختلفةعلى السلوك والطبيعة والحضارة والتاريخ والعقيدة والمعاني المجردة مما جعل الحقلين الدلالين المتداخلين يستوعبان ثراء دلاليا وفيرا مختزلا في أخبار وصور كثيفة دالة، ومن أجل ذلك وظف النص الأفعال والمصادر بشكل ملفت يحاول القبض على لحظات المدح الديني المفعمة بالكثافة والتعالي.
- وظف البوصيري التشبيه والاستعارة ليرسم صورة فنية لخصال الرسول صلى الله عليه وسلم، صورة تسعى إلى تقريب المعنى وتقويته عبر بعدها القائم على موازاة المعنوي بالمحسوس، فهو في فضله بحر والناس برك صغيرة، والذراع يتكلم فيخبر عما فيه من سم تكنية بالاستعارة عن معجزاته وصدق نبوته، وهو سماء لا تطاولها سماء تصريحا بالاستعارة، وخلقه نسيم ومحياه روضة غناء، وكل هذه التشبيهات البليغة والاستعارات اللطيفة تحاول الإحاطة بخلق عظيم وشأن جليل، تعجز اللغة بطوابعها الإشارية البسيطة والمباشرة عن استيعابه، فتنبري الصورة البيانية بما تفجره من إيحاءات، وتخلقه من عوالم متخيلة لتقريب صورة نبي من البشر ، لكنه بينهم كالياقوت بين الحجر.
- النص بالإضافة إلى بعده العاطفي والجمالي ، ذو بعد تواصلي واضح يعكف الشاعر عبره على تمرير قيمة رسول المسلمين ، والمثل التي جاءت بها ملته الحنيفية السمحاء، من خلال إبرازه باعتباره النموذج الأعلى الذي ينبغي أن يتبع ويقتدى به لتقترب الإنسانية من كمالها وسعادتها، وتخرج من ظلمات الجهل والبغي والشقاء.
- إذا كانت القصيدة تحمل مضمونا مدحيا يقدم بأساليب بلاغية وصور فنية ، فإن هذا المضمون وتلك الأساليب تكتسب مزيدا من شعريتها من خلال موسيقى يوفرها إيقاع بحر الخفيف المركب من تفعيلتين: فاعلاتن تتكرر أربع مرات في البيت، وتتوسطها مستفعلن مرتين، وتخضع التفعيلتان لزحاف يحذف بمقتضاه الحرف الثاني الساكن يدعى الخبن،، ويسمح بتطويع إيقاع البحر وخلق تموج نغمي أبطأ قليلا يتيح الاستغراق الوصفي والتأمل الوجداني والحركة الانفعالية الخاشعة التي تزيدها حركة الردف الطويلة وإشباع الروي الحلقي والتدوير إيغالا في الخشوع.
- اضطلع التكرار في النص ببلاغة خاصة ، وتنوعت تمظهراته بين التكرار التطابقي والاشتقاقي والجناسي، وتكرار كتل صوتية موزعة توزيعا متساويا على مسافة إيقاعية مضبوطة ، مما ضخم الموسيقى الداخلية التي عضدت موسيقى البحر في تأمين انسيابية معاني المدح ، وتوفير لحن رخيم يتغلغل إلى ذات المتلقي حاملا فوق تموجاته أطياف المعاني النبيلة، جاعلا من لحظة التلقي ترنيمة أزلية مترعة بالانفعال المنتشي والسفر الوجداني الناعم، وبصرف النظر عن الوظيفة الإيقاعية للتكرار، فله وظيفة دلالية متحكمة تبئر دلالات المدح ، وتلح عليها وتشحنها في ذهن المتلقي، وتصنع منها رؤية مدحية ذات بعد إيقاني وافر أساسه التسليم بجلال مزايا الممدوح، والاعتقاد الإيماني الراسخ بوجب تمثيلها وتمثلها.
- اقتضى غرض المدح في النص توظيف عدد من الأساليب منها الخبر والاستفهام والنداء والنفي والنهي، ومعظم هذه الأساليب ينزاح عن محتواه القضوي المباشر ، ويوفر قوة إنجازية مرتبطة بالتعجب ( كيف ترقى رقيك الأنبياء ) والتعظيم ( ياسماء ما طاولتها سماء ) والمدح والتبجيل ( كل النص ) ، كما كان الشاعر ينتقل من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب ، ومن الغائب إلى المخاطب تبعا لدرجة الانفعال الذي يشتد فيشارف على الاقتراب من مقام الممدوح والوصول إلى عوالمه المثالية ، ثم يخف فيتدرج إلى مقام المدح المستحضر للصفات والخصال المجسدة في ممدوح مفارق لعالم النقصان البشري ، وكأن الكاف والهاء زاويتين للنظر من قريب وبعيد، أو محاولة للالتحاق واعتراف بالتقصير في التوصيف والتأثر.
تركيب وتقويم
يختزن النص أبعادا متعددة تتساوق فيها قيم دينية وتاريخية وجمالية، وكلها تصطرخ بها قصيدة المدح التي تجسد الطابع المعياري للقصيدة العمودية بكل قسماته التي تجعل النص تحفة فنية خالدة تنطوي على مستويات الاكتمال الفني والقدرة الخلاقة على تأليف الأصوات والتراكيب والصور والدلالات والإيقاعات تأليفا نموذجيا لا يعتوره التقصير ، كما تستحضر القصيدة بوفاء تام القيم الأخلاقية العليا واللحظات التاريخية المثلى بشكل ينصهر داخل لغة يطوعها البوصيري، فيصبح الانفعال تفانيا والمدح فنا راقيا وفلسفة تصدر عن قناعة وتأثر وتواصل وانسجام .

هناك 7 تعليقات: