الأحد، 26 أكتوبر 2014

تحليل نص "الشعر الرومانسي"

ظهرت حركةُ سُؤالِ الذّات مطْلعَ القرن العشرين على أنقاضِ حركة البعث والإحياء، وكان هدفها ردَّ الاعتبار لذات الشَّاعر التي همّشَها الإحيائيّون ولم يُولُوها اهتماما يُذكرُ، وهكذا عاد شعراؤُها إلى الشِّعر الغنائيِّ الذي تغلب عليه موضوعات ذات علاقةٍ بالذات والوجدان من قبيل التأمُّل والخيال والهروب إلى الطبيعة والحلولِ فيها و التّفلسف في الوجود متأثٍّرين بالشِّعر الغنائيّ الغربيّ ، وانقسَم تيَّار سؤال الذّات إلى ثلاثِ جماعات مشهورة هي : جماعة الدِّيوان، والرَّابطة القلَميَّة ، وجماعة أبُّوللو. وقد رافقت ظهور الشّعر الرومانسيِّ وتطوُّرهُ دراساتٌ نقديّة موازية استفادت من النقدِ الغربيِّ ومناهجِه ، محاولةً تقديم مفهومٍ جديدٍ للشّعر ولوظيفته بعيدا عن التصوُّر التقليدي المعروف، كما أخذَت على عاتِقها مَهمَّة تِبيان خصائص الشّعر الرومانسيّ وسماته الشَّكلية والمضمونيَّة. وقد اشتهر نقَّاد كثيرون في هذا المجال نذكر منهم : عزّ الدين إسماعيل، وعبد المنعم خفاجي، ويعد عبد المحسن طه بدر من النقّاد المتمرِّسين الذين استفادوا من المناهج الغربيّة، وتطرَّقوا إلى نقد الشعر الرُّومانسيِّ مِن خلال مجموعة من المؤلَّفات أهَمُّها " دراساتٌ في تطور الأدب العربي الحديث". فما القضية التي يطرحها النَّصُّ ؟ وما طرائِق عرْضها ؟
إنَّ أول ما يُطالعنا على الصَّفحة هو عُنوان النَّصِّ "الشّعر الرّومانسيّ" الذي كتب بخط بارز وجاء عبارةً عن جملة اسمية تتشكَّل من مبتدأ "الشّعرُ" ونعتِه "الرومانسيّ" فيما الخبر هو"متن النص"، ومن النَّاحية الدَّلالية يُقْصد بالشعر ذلِك "الجنسَ الأدبيَّ الذي يقوم على وزن وإيقاعٍ ويخضع لبناء معيَّن ويقوم على مقوّماتٍ فنِّيّةٍ معروفةٍ "، أما "الرُّومانسي" فهو تحديد لطبيعة هذا الشعر ونوعِه نسبةً إلى الرومانسية التي تتغنى بالذات وتُولي اهتماما للوجدان والتحرّر من التقليد. فإلى أي حدٍّ يعكس العنوان مضمون النَّصِّ ؟
ومِن خلال العنوان " الشِّعر الرومانسي " واتكاءًً على شكل النّصِّ، وبناءًً على بعض المشيرات من قبيل " أن يخلّصوا ذات الشاعر ، قوة إحساسه الذاتي، شعراءُ مدرسة الديوان، تبني التّراث الغربي في الشّعر..." نفترض أنّ النص مقالةٌ أدبيّة تنضوي تحت خطاب سؤال الذات، يتطرق فيها صاحبها إلى التعريف بالشّعر الرُّومانسيِّ وخصائصه ومدى اختلافه عن شعر إحياء النَّموذج.فما المقصدِيَّة التي رام الكاتب تحقيقها؟
طرحَ الكاتب في مقالتهِ قضية رئيسية تمثّلت في " مفهوم الشّعر عند الرومانسيّين " وناقشها من ناحية الوظيفة؛ فوظيفة الشّعر عند الرّومانسيّين تنحصِر في "التعبير عن الذّات" ، ويرى الكاتب أنَّ ثورة الرّومانسيين العرب كانت ثورةً نسبيَّة ؛ فلا هُم أحدثوا القطيعة التَّامّة مع التُّراث القديم ولا هم نجحوا في تقليد التُّراث الغرْبيِّ ، وهكذا انطبق عليهم التعبير القرآني"لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مذَبِذبينَ بين ذلك" والسّبب في ذلك اندفاعهم وحماستهم وكذا ضبابيّة الرُّؤية التي صدَروا عنها.
وللوقوف على القضيّة الرئيسيّة وتقليبها على أوْجُهها المختلفةِ ، ناقش صاحب النص جملةً من القضايا التي تتفرّع عن القضية الرئيسيّة أهمُّها:
-قضيَّة التقليد: وتتجلى في جانبين؛ يتعلق الأول بتقليد الرُّومانسيين للشعر الغربيّ ، ويتمثل الثّاني في تقليد الإحيائيين للشّعر القديم؛
-الثورة على القديم: وتتمثّل في رفض الرُّومانسيين للتراث الشِّعريِّ في جانبه المضمونيّ؛
-خصائص الشِّعر الرّومانسيّ: وتتمثل أساسًا في التَّجديد في المضامين والشكل، وإيلاء الأهميّة للذات.
←وقد أسهم التطرق إلى القضايا الفرعيّة السّابقة ومناقشتها في إيضاح القضيَّة الرَّئيسيَّة وشرحها وإضاءة جوانبها، سعيا إلى تقريبها إلى المتلقي واضحةً لا تشوبها شائبة غموضٍ .
وقدِ استعان الكاتب في مناقشة فِكرَتِه بمجموعة من طرائق العرض حيث اعتمد "المقارنَة" بين المدرسة الرُّومانسيّة التي تولي اهتماما للذّات والمدرسة الإحيائية التي تخضع لقوّة خارجيّة ، ولعل الهدف من هذه المقارنة يتمثّلُ في تِبيان الفرْق والاختلاف بين المدرستين ، ولفتِ الانتباهِ إلى تميّز المدرسة الرّومانسية، ويُعدُّ "الاستشهاد" بدوره طريقةً من طرائق العرض المعتمدة ، حيث يستشهد الكاتب ببيت شعري لعلي محمود ومقولة نثرية لميخائيل نعيمة ، ويعود سبب ذلك إلى الرغبة في تدعيم الفكرة ومنح رأيه حجِيَّة وقوَّةً إقناعيَّة.
ونهج الكاتبُ طريقةً أخرى تمثلت في افتراض فرضيات وإثبات صحَّتها بعد ذلك ، وهو ما فعله عندما افترَض أنّ ثوْرة الرُّومانسيّين نسبيّة ، وأثبت ذلك لمّا أظهر فشل الشّعر الرّومانسيّ الذَّريع في تقليد الشِّعر الغرْبيّ والتّجديد الكلّيّ في المضمون والشّكل، وإلى جانب هذه الطريقة استنجد الكاتب بأسلوب التّوسيع ؛ أي توسيع فكرةِ سواء بشرحها أو إعطاء الأمثلة أو الاستشهاد ، وقد طبّق هذا الأسلوبَ عنْدما تطرَّق إلى وظيفة الدِّعاية التي هاجمها شعراءُ الرُّومانسيّة مبيِّنا أن الشِّعر الرومانسيّ لا يخضع إلا لقوَّة الذَّات الدَّاخليَّة ، واستشهد على ذلك بأقوال وأشعار لشعراء رومانسيّين.
وفيما يخص طريقةَ الاستدلال التي نهَجها الكاتب فقد اعتمد الأسلوب الاستنباطيّ؛ ذلك أنَّه بدأَ نصّه بالإشارة إلى أهمِّ مدارس الرُّومانسية وشعرائها، ليَنتقل بعد ذلك إلى التفصيل عن طريق إبراز الفرقِ بين الشِّعر الرُّومانسيِّ والشِّعر الإحيائيِّ وذكر خصائص المدرسة الرُّومانسيَّةِ، خاتما نصَّه بإِقرار نسبيّة ما حقَّقته الرُّومانسيَّة من تجديد، وتكمُن أهمّية الأسلوب الاستنباطيّ في طرح الحكمِ ثمّ المرور إلى تفصيله ، ومن ثمّ بناء الفكرة ومناقشتها بالتدرُّج وذلك من خلال الانتقال من التّعميم إلى التَّفصيل، وهو ما يحمل المتلقي على الفهم المؤدّي إلى الاِقتناعِ.
رام الكاتب في نصه إبرازَ خصائص المدرسة الرُّومانسية التي كانت أولّ حركةٍ شعريَّة خالفت مدرسة الإحياء ، وحاولت جهد المستطاع أن تثُور على الشِّعر القديم شكلا ومضمونا لكنَّ ثورتها اتّسمت بالنسبية، وقد قصد الكاتب مما ساقَهُ إلى مساءَلة الحركة الرّومانسية ونَقْدها ، ولِعرض ذلك ومناقشته وظَّف الكاتب جملةً من طرائقِ العرض المختلفة ؛ مِنْ لغة تقريرية مباشرة ، ومعجم غنيّ مكوّنٍ من حقلين ، ومرجعيات يطبعها التعدّد ، وأسلوب استنباطيٍّ ، واعتمادٍ على الاستشهاد والتوسيع، وقد نجح الكاتب في إعطاء فكرة وتصوُّر عن المدرسة الرّومانسية وخصائصها ومحاولتها التّجديديّة، ومن خلال ما سَبق تفصيله نصل إلى إثبات صحَّة الفرضية المطروحة آنفا وانتماء النصّ إلى المقالة الأدبيّة المنضوية تحت خطاب سؤال الذات. وإذا كان الكاتب يرى أن شعراء الرّومانسيّة لم يستطيعوا تحقيق ثورةٍ مطلقة في شكل ومضمون القصيدة ، فهل نلمس ذلك في أشعارهم وإبداعاتهم ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق