الثلاثاء، 7 أكتوبر 2014

تحليل قصيدة البارودي لي في من مضى مثل-ج2-

لي في من مضى مثل 2



تحليل النص :


1 - الإيقاع :
- الأيقاع الخارجي :
نظم الشاعر على بحر البسيط ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ، في كل شطر ) ..
رد الصبا بعد شيب اللمة الغزل * * وراح بالجد ما يأتي به الهزل
ردد صــصبا بـعـد شي / بلـلـمـمـتـل / غــزلـو * * وراح بــل / جــددمــا / يـأتـي بـهـل / هـزلــو
- 0 – 0 - - 0 / - 0 - - 0 - 0 – 0 - - 0 / - - - 0 *- - 0 - - 0 / - 0 - - 0 / - 0 – 0 - - 0 / - - - 0
مـستفــعـلـن فـا عـلن / مـستــفعـلـن / فـعـلـن * * مـتفـعـلـن / فـا عـلـن مسـتـفـعـلـن / فعـلـن
لم ينوع الشاعر في الوزن واختار عروضا مخبونة وضربا مثلها .. كما أنه لم ينوع في القافية التي تتألف من سبب خفيف وفاصلة صغرى ، وهي مطلقة ( رويها متحرك ) موصولة بصائت طويل ( مد ) متحقق في واحد وعشرين بيتا ، ومتولد عن إشباع حركة الروي في البيتين الثاني عشر ( قتلوا ) والسادس عشر ( نزلوا ) ..
كذلك لم ينوع في الروي وهو حرف اللام ، لثوي مائع مجهور دال هنا على التفجع والتحسر ..
إذا أضفنا تصريع البيت الأول إلى احتفاظ الشاعر بوزن موحد وقافية موحدة وروي موحد ، نخلص إلى أن الشاعر اختار الإطار الموسيقي التقليدي قالبا ليصب فيه تجربته ، وبذلك يكون قد سار على نهج القدماء ..
- الإيقاع الداخلي :
يتشكل من مجموعة من الظواهر الصوتية والبلاغية والنحوية .. فهو يتشكل من :
ا - التكرار ، ونلمسه على المستويات التالية :
* الحروف :
بالنسبة إلى الصوامت نجد اللام ( لثوي ) والباء والميم ( شفويان ) تحظى بحضور لافت للنظر خصوصا اللام باعتباره رويا .. وهي تحيل على حقل التفجع الذي يبدو ظاهرا في الوحدة الأولى مستترا في باقي الوحدات .. أما بالنسبة إلى الصوائت فالضمة هي المهيمنة ** وهي لما لها من دلالة على القوة تتناغم مع الوحدة الثانية ( الفروسية والحماسة ) بشكل واضح ومع الرابعة بشكل أقل وضوحا ، ولا تتناغم مع الوحدة الأولى ( المقدمة العاطفية ) .. يعني هذا أن الشاعر قد أخضع كل الوحدات لوحدة الفروسية والحماسة باعتبارها الغرض الرئيس ..
* الكلمات : الكف ( 2 ) ، يمر، مر ، يمناه ، يمنى ، عمل ، العمل ، المحبة ، الحب ، أمضي ، ماضي ، أنزل ، نزلوا ...
* الجمل ويكاد ينعدم : هذا هو .
* الصيغ الصرفية :
- صيغة فَعَََلُ ( فتح الفاء والعين وضم اللام ) : الهزل ، الأزل ، المثل ، العطل ، الطفل ، الميَل ، الوهل ، البلل ، الفلل ، الدغَل ، ...
- صيغة فعل (ضم الفاء وتسكين العين وضم اللام مع التنوين ) : زرق ، سود ، خضر .
- صيغة فواعل : حوافره ، نواظره ، جحافله .
- صيغة يفتعل ومفتعل : مشتعل ، تعتدل ، يكتهل ، تنتقل .
* النسق العروضي : تكرار التفعيلة بتلويناتها والقافية والروي ، وهو تكرار اضطراري بحكم محاكاة الشاعر للقدماء ..
ب – التوازي : ونلمسه خصوصا في البيت التاسع حيث تتناظر الوحدات المعجمية زرق وسود وخضر ثم حوافره ونواظره وجحافله ..
وفي هذا البيت نلمس الشاعر قد اعتمد المؤالفة في قوله : رزق حوافره سود نواظره خضر جحافله ، والمخالفة في قوله : في خلقه ميل .
ج - التقديم والتأخير : في البيت الأول مثلا نجد أن الرتبة الأصلية للوحدات المعجمية المشكلة له هي : رد الغزل الصبا بعد شيب اللمة وراح ما يأتي به الجد بالهزل . ومعلوم أن للتقديم والتأخير وظيفة دلالية بالإضافة إلى دوره في تشكيل موسيقى النص الشعري ..
د - الترادف ( الغزل ، الهزل ) والتضاد ( أحياء ، قتلوا / صبر ، جزع / الريث ، العجل ... ) .
يتشكل الإيقاع الداخلي أثناء كتابة القصيدة ولذلك فهو يعكس تجربة الشاعر وحاله النفسية .. وهي تبدو متقلبة متحولة من ضعف واستسلام للقدر إلى مندفعة باطشة في ساحة المعركة والصيد إلى رزينة حكيمة في النهاية .. ولعل هذا التقلب ناتج عن غياب الوحدة الموضوعية والعضوية من جهة وعن استحضار الشاعر لمسار حياته من الصبا ( الغزل ) إلى الرجولة ( الحرب والصيد ) إلى الكهولة ( الحكمة ) .
الخلاصة هي أن الشاعر ظل وفيا للتقاليد العروضية الخليلية ناسجا على منوال القدماء ..
2 - المعجم : 
يتشكل من ثلاثة حقول دلالية بحسب عدد الوحدات المشكلة للنص :
- حقل ذاتي عاطفي : الغزل ، الهزل ، شيب اللمة ، الصبا ، الصبر ، الجزع ، الحب ، المحبة ، نازعتني ، النفس ... وهو يدل على مدى تحسر الشاعر على مضي زمن اللهو والغزل بعد أن غزا الشيب لمته .. وهو معنى تعاوره الشعراء منذ القديم ..نجده عند الكميت بن زيد الأسدي ( شاعر أموي ناصر آل البيت في قصيدة مطلعها : 
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب * * * *ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب ) وعند علال الفاسي في قصيدة يعارض فيها قصيدة الكميت السابقة ومطلعها : 
أبعد مرور الخمس عشرة ألعب * * * * وألهو بلذات الحياة وأطرب .
هذا الحقل يضع ذات الشاعر في قلب صراع ، بين الرغبة في ممارسة الغزل ( نازعتني النفس باطلها ) وبين التزام الوقار ، ويحسم لصالح الأخير أسوة بالذين ذهبوا ..
- حقل الفروسية والصيد : أشقر ( بما هي صفة للفرس ) ، الباترات ، البيض ، قوائمه ، حوافره ، الهول ، مقداما ، ماضي الغرار ، الوهل ، الهام ، الضراب ، فتكته ، أحياء ، قتلوا .... وهو يكشف من جهة عن صورة الشاعر المقدام الذي لا يهاب الموت ، الممتطي لفرس لا يكل والحامل لسيف لا يفل ( يستعيد الصورة المثالية للفارس البطل كما عهدناها عند عنترة بن شداد ) ومن جهة ثانية عن حرص الشاعر على عدم الخروج على ما تواضع عليه القدماء وذلك من خلال توظيفه للسيف والفرس دون غيرهما من الأدوات الحربية( البندقية والمدفع ) التي خاض بها معاركه ..
- حقل النصح والحكمة : العيش ، لغو الحديث ، الإفكة ، فاتبع ، هواك ، دع ، الريث ، العجل ، الأدب ، الأخلاق ... وهو يكشف عن النزعة التعليمية الأخلاقية التي أطرت خطاب البعث والإحياء بشكل عام وشعر البارودي بشكل خاص ، والتي عبر عنها في معرض تحديده لماهية الشعر ( فيض وجدان وتألق خيال ) ولرسالته ( تهذيب النفوس ، تنبيه الخواطر ، اجتلاء المكارم ) . 
وقد عمد الشاعر إلى التوسل بلغة الشعر القديم لعرض تجربته وهذا واضح من خلال توظيفه وحدات معجمية مثل : الفتى ، الكلل ، الباترات البيض ، حجوله ، أعطافه ، ماضي الغرار ، ، الوهل ، النمل ، الهمل ، السوام ، الضراب ... 
هكذا يستعيد البارودي ، باستعادته لغة القدماء ، نمط عيشهم وحياتهم ويستعيد معه القيم الثقافية المؤطرة له .. وهذا ما يجعل المعركة التي يصفها هنا معركة قديمة ..
البارودي لم يصف المعركة التي خاضها وإنما وصف المعركة التي ترسخت في ذهنه من خلال قراءته للشعر القديم وتأثره به ..
3 – الصورة الشعرية :
تستمد الصورة مكوناتها من العالم المحسوس وتميل إلى تجسيد ما هو معنوي ، وتعتمد الأدوات البيانية الموروثة ( التشبيه ، الاستعارة ، المجاز ، الكناية ) وتقوم على علاقة المشابهة الملازمة لطبائع الأشياء ( النظر إلى الأشياء باعتبارها متشابهة ) وعلاقة المجاورة ( النظر إلى الأشياء باعتبارها متجاورة ) .. 
إذا أخذنا الصورة في البيت الثالث : لكن قضاء خطه القدر .. 
من حيث مكوناتها فهي تستمدها من العالم المجرد وتنقلها إلى المستوى المحسوس .. القدر مجرد والقضاء كذلك .. وبما أن القدر خاط فهو مجسد ، وبما أن القضاء مخطوط فهو مقروؤ .. هكذا نرى تجسيدا لما هو معنوى على غرار الصورة العباسية .. 
ومن حيث أدواتها فهي تتوسل بالاستعارة المكنية .. شبه الشاعر القدر الخاط بالإنسان الذي يكتب ولم يذكر الإنسان فكانت الاستعارة مكنية .. كما شبه 
القضاء بالمخطوط دون أن يذكره .. 
أما العلاقة التي بنيت عليها هذه الصورة فهي المشابهة باعتبار الاستعارة تشبيها حذف أحد طرفيه وهو هنا الإنسان والكتاب .. 
في البيت الثالث عشر نجد الصورة : كأنه شعلة في الكف قائمة تهفو بها الريح ... وهي تستمد مكوناتها ( السيف ، الشعلة ، الكف ) من العالم المحسوس ، وتعتمد التشبيه وتقوم بذلك على المشابهة .. 
في البيت العاشر نجد : أمضي به الهول ويصحبني ماضي الغرار .. تستمد هي أيضا مكوناتها من العالم المحسوس ( أنا ، ماضي الغرار ) .. وبالإضافة إلى الاستعارة المكنية ( تشبيه ماضي الغرار = السيف بالإنسان المصاحب دون التصريح به ) نجد الكناية ( ماضي الغرار ) عن موصوف وهو السيف ..
من خلال هذه الأمثلة يتضح أن الصورة الشعرية في النص تستمد مكوناتها من العالم المحسوس وتميل إلى تجسيد المعنويات كما تقوم على علاقتي المشابهة والمجاورة ..
أما من حيث الوظيفة ، فبما أن الصورة تظل محصورة في البيت الواحد لاتتخطاه ، وبما أن الصور في النص تفتقر إلى الناظم الفكري والعاطفي الذي يجعل منها صورة واحدة ذات مضمون فكري وعاطفي موحد ، فذلك يعني أن الشاعر يتخد من البيت المقفل عروضيا ونظميا ودلاليا أداة للتعبير ولا يسمح للصورة بذلك ..
من هنا نستطيع القول بأن الصورة في النص تكتفي بأداء وظيفتها التجميلية دون أن ترقى إلى مستوى الوظيفة التعبيرية وهذا واضح أيضا من خلال إبقاء الشاعر على مسافة نفسية بينه وبين موضوعه أسوة بالخيال الشعري العربي القديم ..
من خلال ما تقدم تبدو الصورة في النص محاكية للصورة الشعرية العربية القديمة بما يسمح بالقول بأن البارودي لا يبدع صورا ولا يتخيل بقدر ما يعيد إنتاج الصورة القديمة ويتذكرها ..
4 - الأساليب :
تهيمن في النص الجملة الفعلية .. وهي تتوزع من حيث زمن الفعل فيها إلى ثلاث صيغ :
- صيغة الماضي : رد ، راح ، سلفت ، اطلعتني .... وهي تحيل على الزمن الماضي الممتد في الحاضر ..
- صيغة المضارع : يمر ، يفل ، تنتقل ، تعتدل ... وهي صيغة خالية من الزمن الغاية منها إبراز إمكانية تحقق الفعل في أي زمان ..
- صيغة الأمر : اتبع ، دع ، اعرف ، ارض . وهي تحيل على الاستقبال بما هي أفعال مطلوب إنجازها على وجه النصح والإرشاد ..
يخلق الزمن النحوي للفعل في النص حالة من التعالي المدعوم بالاستمرارية لرسم صورة مثالية عن الشاعر خصوصا في ميدان القتال ..
كما تهيمن في النص الجملة الخبرية .. والخبر فيها ابتدائي يتصور الملتقي جاهلا بما تتلفظ به الذات ومستعد لقبوله وتصديقه ، ولذلك جاء خاليا من التوكيد .. 
أما الضمير المهيمن فهو المتكلم المفرد الذي يحضر في الوحدة الأولى والثانية .. ولحضوره ما يبرهه باعتبار التجربة العاطفية المعبر عنها تجربة ذاتية شخصية ، وباعتبار رغبة الشاعر في الظهور بمظهر البطل القائد المقدام المميز عن بقية المقاتلين .. لكن ضمير المتكلم المفرد يختفي في الوحدة الثالثة ليحل محله ضمير المتكلم الجمع للدلالة على اجتماعية الشاعر وحسن عشرته ، وهو الوجه الآخر له ( باطش بالأعداء رفيق بالأصدقاء ) ..
5 – بنية النص :
يتسم النص بغياب الوحدة الموضوعية والعضوية على غرار القصيدة العربية الأصيلة .. وهو بذلك بنية متشققة الأجزاء لا يربط بينها سوى الرابط العروضي وحضور ضمير المتكلم بتلوينيه المفرد والجمع ..
ومما يزيد من تشقق النص هو تعبير الشاعر عن تجربة - تجارب معيشة في قالب قديم .. غير أننا نكاد نتلمس خيطا دلاليا رفيعا يشد هذه الأجزاء إذا نحن اعتبرنا النص تعبيرا عن تجربة حياة ..

التركيب :

من خلال تكرار نفس المضامين الشعرية القديمة ، ومن خلال اعتماد الإطار الموسيقي التقليدي ( وحدة الوزن ووحدة القافية ووحدة الروي ثم تصريع البيت الأول ) ، ومن خلال التوسل بلغة القدماء والاحتذاء بهم في نسج صورهم وأساليبهم نستطيع القول بأن هذا النص يجسد بحق كل خصائص شعر البعث والإحياء بما هو استعادة للقديم ومحاولة لمجاراته ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق