السبت، 11 أكتوبر 2014

الفصل الثالث تجربة الحياة والموت .-ثانية باك-








تكفي الإشارة في نظر المعداوي إلى الأحداث الكبرى التي عرفتها الساحة العربية في العشرين سنة التي تلت النكبة ، ليقرر بأن إيقاع اليأس الذي كان يؤطر تجربة الغربة والضياع لم يكن سوى الوجه الثاني لعملة ووجهها الأول هو إيقاع الأمل الذي ارتبط بالفترات المشرقة .. ’’ فكما أثمر إيقاع اليأس في بعض الأحيان تجربة الغربة فقد تجاوزها في بعض الأحيان الأخرى فأثمر تجربة الموت ، ومن معاناة الشاعر لهذه التجربة بدأت تتولد في أعماقه معاني الولادة والتجدد والبعث يسندها من قبل الواقع ، إيقاع جديد هو إيقاع الأمل ‘‘ .

ذلك يعني أن التجربتين متداخلتان غير مستقلتين أو متواليتين ، وتداخلهما يجعل من الصعب الحديث عن واحدة دون الأخرى .. كما يعني أن تجربة الشاعر الحديث كانت ’’ وسطا يتجاذبه إيقاع اليأس وإيقاع الأمل ، على أن غلبة أحد الإيقاعين وسيطرته واستطالته قد تفضي إلى نتائج عكسية كأن يثمر إيقاع اليأس إيمانا غامرا بالتجدد والبعث ..... أو يثمر إيقاع الأمل إحساسا متزايدا بالهرم والشيخوخة يعقبه وقوع تام في أحضان الموت ‘‘ .

هكذا يكون الشاعر الحديث متأرجحا بين إيقاع الأمل وإيقاع اليأس بحسب حركة التاريخ العربي بعد النكبة ، ولذلك سادت شعره معاني اليأس الغربة – الضياع – الاستسلام -..) ومعاني الأمل ( اليقظة والبعث والتجدد والولادة ) ..غير أنه لم يستسلم وجعل من الموت طريقا إلى الحياة باعتباره وسيلة للتطهر والاغتسال من أدران الحياة الماضية ..

ويميز المعداوي تجربة الغربة والضياع بكونها مشدودة إلى الحاضرباعتيارها ’’ مشاعرنا وعذاباتنا في واقع الدمار الذي خلفته النكبة ‘‘ كما يميز تجربة الحياة والموت باعتبارها مشدودة إلى المستقبل فيما هي تضرب جذورها في تربة الواقع ’’ إنها معاناة للواقع الذي يتضمن معنى الموت ، واستشراف للمستقبل الذي يحمل معنى التجدد والانبعاث ‘‘ .وانشداد تجربة الحياة والموت إلى المستقبل يجعلها تجربة فريدة من نوعها حسب المعداوي .. فلم تسبقها في نظره سوى تجربة المهجريين ومحاولتهم ’’ في التعبير عن فكرة تناسخ الأرواح وهي فكرة يبدو فيها الإيمان بالتجدد بعد الموت واضحا جليا ...‘‘ . لكن محاولاتهم لم تثمر تجربة شعرية متماسكة ..

غير أن الذي يميز تجربة الحياة والموت هو كونها أقرب إلى معنى الفداء عند المسيحيين منها إلى فكرة التناسخ ، ثم إن الشاعر الحديث يعي بأنه مطالب بتحويل الإحساس بالموت إلى إحساس بالحياة وهو أمر متعذر لايقبله العقل والمنطق ..لذلك توسل بالرموز والأساطير ذات الصلة بمعاني الحياة والتجدد والولادة ..فقد اكتشف الأساطير البابلية واليونانية والفينيقية والعربية ومتح من المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي الإسلامي ومن الفكر الإنساني .. اكتشف تموز وعشتار وأورفيوس وطائر الفينيق وصقر قريش كما اكتشف الخضر ونادر الأسود ومهيار والعنقاء وسندباد وعمر الخيام وحبيبته عائشة ثم الحلاج والعازر..

ينهي المعداوي هذه التوطئة لتناول تجربة الحياة والموت في الشعر الحديث بقوله ’’ وباستيحاء تلك الأساطير واستخدام تلك الرموزالتي تدور كلها حول معاني التجدد التي استقرت في أعماقنا مع ما استقر من رواسب الثقافة والتراث الحضاري ، أصبح في وسع الشاعر أن يحدث الناس عن انبثاق الأمل في نفسه من أنقاض اليأس .... وعن بعث الأمة العربية وتجددها وعن انتصار الحياة على الموت ‘‘

ولعل خير من يمثل تجربة الحياة والموت في نظر المعداوي هم أربعة شعراء : أدونيس ، خليل حاوي ، عبد الوهاب البياتي ، وبدر شاكر السياب .

أدونيس : التحول عبر الحياة والموت .

يقرر المعداوي بأن علاقة أدونيس بمعاني الحياة والموت قديمة تبلورت منذ ديوانه الثاني ’’ أوراق في الريح ‘‘ .. لكن ما يهمه من تجربته مع الحياة والموت هو تلك الأشعار التي التقت فيها ذات الشاعر بذات الأمة العربية ’’ فأصبح في موتها وبعثها موت الشاعر وبعثه ‘‘

هذا الشعر توزعه الديوانان الأخيران وهما ’’ كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل ‘‘ و ’’ المسرح والمرايا ‘‘ .

وما يلفت نظر المعداوي في هذه الأشعار هو ’’ صدورها عن ذات محتقنة بفحولة التاريخ العربي في واقع يفتقر إلى الفحولة والخصب ‘‘ .

هذا الوعي جعل معاني الحياة والموت تسير في اتجاه من التساؤل إلى البحث ، وفي اتجاه من البحث إلى اكتشاف الانهيار الكامل الذي يسود الواقع العربي .. ولذلك فتجربة أدونيس تستمد قيمتها من الاتجاه الثاني وهو اكتشاف مبدإ التحول .. إلا أن التحول تارة يكون مقنعا وتارة لا يكون ..

يمثل المعداوي عن التحول المقنع ، والذي يتم داخل المنطق الأسطوري ، ’’ بقصيدة تيمور ومهيار ‘‘ حيث الأول يرمز إلى قوى التسلط والقهر والثاني إلى إرادة الحياة لدى الشعب .

ويرد المعداوي نجاح فكرة التحول في هذه القصيدة إلى عاملين : الأول هو استيحاؤها لأسطورة الفينيق الذي حرق نفسه لكي ينبعث الربيع من رماده ، وأسطورة العنقاء التي تموت فيلتهب رمادها فتحيا ثانية .. والثاني هو المضمون الرمزي للقصيدة لأن مهيار يرمز إلى إرادة الحياة لدى الأمة ..

هذان العاملان هما ما جعل القارئ يتقبل الأحداث الغريبة في القصيدة ويقتنع بفكرة التحول من الموت إلى الحياة .

ويمثل المعداوي عن فشل فكرة التحول عند أدونيس بقصيدة الأسماء والذي يتم خارج المنطق الأسطوري ..

يختم المعداوي الحديث عن تجربة أدونيس مع الحياة والموت بالتنبيه إلى أن اشتغاله على الأسطورة أمر واضح في شعره الذي يدور حول الحياة والموت ’’ غير أن مفهوم التحول لم يلبث أن أفلت من إطار هذا المنهج ( الأسطوري ) الأمر الذي جعل شعره أقل ارتباطا بحركة التاريخ العربي‘‘ عكس خليل حاوي والبياتي والسياب .

خليل حاوي : معاناة الحياة والموت .

على عكس أدونيس ، أقام خليل حاوي مبدأ المعاناة بدل مبدإ التحول .. فخلال معاناته تفسخ الأشياء والقيم في ذات الشاعر وفي ذات الواقع الحضاري بدأت ملامح الذات الجديدة والحضارة الجديدة تتراءى للشاعر.. غير أن إحساسه برخاوة الحاضر وتفسخه ظل حاجزا يعوق عملية الاحتراق والتطهر التي تسبق الولادة الجديدة وتبشر بها .. وحين تتأخر عملية الاحتراق وتتعذر الولادة تبدأ رحلة معاناة الموت وتستمر في كل قصائد ديوانه ’’ نهر الرماد ‘‘ كما في قصيدة ’’ ليالي بيروت ‘‘ و’’ دعوى قديمة ‘‘ ..

خلال هذه المعاناة يتمكن الشاعر من الكشف عن الطاقات الحية الكامنة وراء مظاهر الموت فيختار جانب العلاقة الجنسية التي ترمز بتدهورها على انهيار كيان الفرد وكيان الأسرة وانهيار المجتمع في نهاية الأمر انهيارا حضاريا شاملا ، وهذا ماجعله يركز على العلاقة الجنسية في أربع قصائد هي : ’’ نعش السكارى ‘‘، ’’ جحيم بارد ‘‘ ، ’’ بلا عنوان ‘‘ ، ’’ الجروح السود ‘‘ ، وفي القصائد الثلاث التي تليها وهي : ’’ في جوف الحوت ‘‘ ، ’’ السجين ‘‘ ، ’’ سدوم ‘‘ .

ويقر المعداوي بأن خليل حاوي كما عانى ’’ الموت وحده في هذه القصائد الثلاث عن طريق معاناة الموت في الحياة ، يعود في القصائد الخمس الأخيرة من الديوان إلى معاناة الحياة والموت مجتمعين ‘‘ وهذا ما تدل عليه القصائد : ’’ بعد الجليد ‘‘ ، ’’ حب وجلجلة ‘‘ ، ’’ المجوس في أروروبا ‘‘ ، ’’ عودة إلى سدوم ‘‘ ، ’’ الجسر ‘‘ .

وفي ديوانه الثاني ’’ الناي والريح ‘‘ ’’ تتحدد مسؤولية الشاعر في القدرة على التخلص من ذاته القديمة ومواكبة البعث العظيم بشعر عظيم في مستوى عظمته ‘‘. ففي قصيدة ’’ عند البصارة ‘‘ تأكيد على أن ذات الشاعر لم تتحرر بعد ، وفي ’’ جنية الشاطئ ‘‘ يتنتهي على نتيجة منطقية هي أن :

- التطهر شرط البعث .

- الذات العربية لن تتطهر.

- البعث لن يتحقق .

وفي قصيدة العازر عام 1962 ينتهي إلى ’’ اليأس من البعث عبر معاناة فريدة للموت في نهر الرماد وللتحول في الناي والريح وللخيبة في بيادر الجوع ‘‘ .

ويتساءل المعداوي عما إذا كان الشاعر قد فاز بالبعث العظيم وواكبه بشعر عظيم ..الجواب في نظره يوجد في ديوان ’’ بيادر الجوع ‘‘ .

’’ فإذا كنا في نهر الرماد قد بدأنا من اليأس وانتهينا إلى الأمل ، فإن تجربة بيادر الجوع تبدأ من الأمل لتنتهي إلى الخيبة ‘‘ .

يختم المعداوي الحديث عن تجربة معاناة الحياة والموت في شعر خليل حاوي بالإشارة إلى أن هناك توافقا ’’ بين إيقاع الأمل واليأس الذي يسود كل مجموعة من هذه المجموعات وبين طبيعة الحقبة التاريخية التي كتبت فيها ‘‘ .وهذا يعني أن الواقع الحضاري هو الذي يتحكم في سيادة هذا الإيقاع أو ذاك .. فنهر الرماد ساده إيقاع اليأس لأنه كتب ما بين 1953 و 1956 وهي فترة مظلمة .. وديوان الناي والريح ساده إيقاع الأمل لأنه كتب ما بين 1956 و 1958 وهي فترة مشرقة .. أما ديوان بيادر الجوع فقد ساده إيقاع اليأس لأنه كتب بعد 1958 .

بدر شاكر السياب :

يثير المعداوي الانتباه إلى أن معاني الحياة والموت تحتل مساحة شاسعة من شعر السياب ، لكن تجربته تتميز بكونها تتخذ طابعا فدائيا ، وهذا ما يفسر ولعه الشديد بالموت الذي يصبح لديه انتصارا للحياة .

ويتخذ معنى الفداء في شعره صفة العمق والشمولية حين يتم داخل المنطق الأسطوري .. ويعتقد المعداوي أنه نجح في منح الموت معنى الفداء مستشهدا بقصيدته ’’ المسيح بعد الصلب ‘‘ .

هذه القصيدة تتألف من سبعة مقاطع :

في الأول يصلب المسيح ويترك لوحده لكنه يكتشف أن الصلب لم يمته .

في الثاني يوحد الشاعر بين بعث المسيح وبعث الأمة العربية التي يرمز إليها باسم قريته ’’ جيكور ‘‘ .

في الثالث يتحدث الشاعر عن الموت الذي لا يثمر الحياة وهو موت أعداء الحياة ، أعداء المسيح والأمة العربية والذين يرمز إليهم ب ’’ يهوذا ‘‘ .

في الرابع يصور الفزع الذي أصاب رفاق يهوذا وإسراعهم إلى مكان الصلب قصد التحقق من موت المسيح .

في الخامس يحلل عملية البعث التي تبدأ كما ينبثق الظن ...

في السادس يعالج التناقض بين إرادة الموت لدي المسيح وبين إرادة الحياة لدي الشعب _ الأمة العربية

وفي السابع يتحقق التفاعل بين الموت والحياة ’’ حين تلتقي إرادة الحياة بإرادة الموتعلى صليب الفداء فيصبح المسيح فاديا ومفتدى ويكون مخاض المدينة ويكون البعث العظيم ‘‘

ويقرر المعداوي أن علاقة السياب بمعاني الموت والحياة قديمة تمتد إلى المراحل الأولى من حياته وهذا ما تكشف عنه رسالة بعث بها إلى شاعر عراقي هو خالد الشواف تحمل مضمونا يتقاطع مع مضمون قصيدته ’’ رسالة من مقبرة ‘‘ حيث الموت موت بدر الشخصي وموت الأمة العربية الجمعي .

عبد الوهاب البياتي _ جدلية الأمل واليأس :

يرى المعداوي أن المتتبع لشعر البياتي السابق عن ديوانه ’’ الذي يأتي ولا يأتي ‘‘ يلاحظ أن هناك تناقضا بين قدرة الشاعر الفائقة على تعرية الانهيار الحضاري للأمة وبين المضمون المتفائل للصور في هذا الشعر وهذا ما حدا بعز الدين اسماعيل إلى القول بأن البياتي لم يكن يصدر شعره عن إطار فكري محدد وواضح ..

هذا الرأي سليم من وجهة نظر المعداوي إذا تم النظر إلى شعر البياتي نظرة جزئية أما إذا نظر إليه في كليته فالرأي مجانب للصواب ..

فهو في رأيه ’’ حين ربط ثورته بروح الثورة ، لا بالثورة المحددة بزمان معين ومكان معين ، قد امتلك معينا لا ينضب من صور الأمل ‘‘ أما حين ربطها بالثورة العربية التي تتفنن في إجهاض نفسها امتلك معينا لا ينضب من صور اليأس ..

وقد سار شعر البياتي في نظر المعداوي في ثلاث منحنيات :

الأول فيه انتصار ساحق للحياة على الموت ، وتمثله الأعمال الشعرية السابقة عن ديوان ’’ الذي يأتي ولا يأتي ‘‘ ولاسيما قصائده ’’ كلمات لا تموت ‘‘ و ’’ النار والكلمات ‘‘ و ’’ سفر الفقر والثورة ‘‘ .

والثاني فيه تتكافأ كفتا الموت والحياة ويمثله ديوان ’’ الذي يأتي ولا يأتي ‘‘ .

أما الثالث ففيه انتصار للموت على الحياة ويمثله ديوان ’’ الموت في الحياة ‘‘ .

ويفصل المعداوي هذه المنحيات في :

منحنى الأمل ، منحنى الانتظار ( خط الحياة ، خط الموت ، خط السؤال ، وخط الرجاء ، خط الاستفهام ، خط الرجاء والتمني ) منحنى الشك ..

يختم المعداوي بالاعتراف بقدرة البياتي على كشف الواقع وهذا يعني بالنسبة إليه أنه يصدر عن إطار فكري واضح عكس ما يدعيه الدكتور عز الدين اسماعيل .

خاتمة الفصل :

يؤكد المعداوي أن هناك عدة عوامل حالت بين الشعر العربي الحديث وبين إقبال الجماهير عليه وتذوقه ، ومنعته من أن يكون طاقة مفجرة للتغيير .. من أهم هذه العوامل هناك :

عامل ديني قومي : يرى البعض أن تجربة الشعر الحديث مساس بالتراث ككل وتشويه للشخصية الدينية والقومية .

عامل ثقافي : بعض النقاد يقدسون الشعر القديم ويرفضون كل محاولة تجديدية .

عامل سياسي : الأنظمة العربية ظلت تخشى صوت الشاعر المتحرر المناهض للواقع وظلت تحاصره بكل الوسائل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق